منذ توليه مسئولية السلطة رفع الرئيس عبدالفتاح السيسى لواء الدفاع عن الدولة الوطنية بوصفها حجر الزاوية فى نهضة وتقدم الشعوب، والحفاظ على مقدراتها، لمواجهة أى تحديات أو مخاطر منظورة أو غير منظورة.
رؤية الرئيس كانت بعيدة المدى، فهو وإن كان قد طرحها فى إطار الحفاظ على وحدة الدول وتماسكها فى مواجهة ظاهرة الإرهاب، فإن هذه الرؤية الآن هى المسيطرة على كل دول العالم ـ بلا استثناء ـ بعد تفشى وباء “كورونا”، بعد أن أصبحت قدرات الدولة الوطنية وحدها هى المعيار الأساسى لتمكين هذه الدولة أو تلك من مواجهة هذا الخطر، فى ظل انشغال كل دولة بحالها وظروفها الخاصة جدا، وإغلاق الحدود الجوية والبرية فى وجه الآخرين، خوفا من تفشى العدوى وانتشارها.
لم يشفع لـ”إيطاليا” كونها عضوا مهما وفاعلا فى الاتحاد الأوروبى الذى تركها وحدها تقاسى مرارة الألم والانهيار بسبب فيروس “كورونا”، مما جعل وسائل الإعلام الإيطالية تندد بالاتحاد الأوروبى، وتنشر أخبارا سلبية عن الاتحاد، خاصة بعد أن استولت السلطات التشيكية على الأقنعة الواقية الصينية المرسلة إلى إيطاليا، وفى الوقت نفسه بدأت التساؤلات الكثيرة تدور حول جدوى الاتحاد الأوروبى، فى ظل عجزه عن التضامن فى مواجهة الأزمة، فى حين كانت دولة مثل الصين هى الأقرب من الاتحاد الأوروبى فى مساندة إيطاليا ودعمها خلال محنتها الحالية.
الموقف نفسه تكرر فى الصرب، لدرجة أن الرئيس الصربى ألكساندر فوتشيتش اضطر إلى أن يصرح خلال مؤتمر صحفى قائلا: لقد رأينا أنه لا يوجد تضامن ولا تكاتف فى أوروبا مضيفا أنا أثق فى الصين، فهى الدولة الوحيدة التى يمكن أن تساعدنا، أما بالنسبة للآخرين “الدول الأوروبية” فنشكرهم على “لا شىء”.
هذه الأزمة غير المسبوقة عالميا أعادت بقوة مرة أخرى مفهوم “الدولة الوطنية”، وقدرتها على الحفاظ على مقدراتها ومستقبل شعبها، فى ظل التحديات التى يمكن أن تواجهها، سواء كانت تحديات تقليدية مثل مواجهة الإرهاب أو العدوان الخارجى، أو تحديات مستجدة وغير تقليدية مثلما حدث فى وباء “كورونا المستجد” أو غيره من التحديات غير المتوقعة التى يمكن أن تظهر بشكل مفاجئ وغير متوقع على غرار فيروس “كورونا”.
يحسب للرئيس عبدالفتاح السيسى رؤيته المستقبلية، وتأكيده مفهوم “الدولة الوطنية” فى وقت كانت فيه قوى عالمية كثيرة متورطة بشكل علنى وفاضح فى المطالبة بإسقاط الدولة الوطنية، ورغم ذلك فقد تمسك الرئيس عبدالفتاح السيسى برؤيته، ودافع عنها بكل قوة من على منصة الأمم المتحدة، وفى كل المحافل الدولية والإقليمية، وطالب بدعم مفهوم “الدولة الوطنية”، واحترام سيادة الدول، وضرورة بناء المؤسسات الوطنية، بما يمكنها من القيام بدورها فى الحفاظ على مقدرات شعوبها، والتركيز على دفع جهود التنمية الشاملة، وتحقيق تطلعات مواطنيها نحو مستقبل مزدهر.
تمسك الرئيس السيسى برؤيته ليس من أجل مصر وحدها، وإنما لمصلحة كل شعوب ودول المنطقة، وأثبتت الأيام والأحداث صدق هذه الرؤية، وبها استطاعت مصر أن تنجو من “فخ” كاد يعصف بكيانها، ويحول المنطقة كلها إلى “ركام وحطام” ـ لا قدر الله ـ إذا نجح المخطط الشيطانى وسقطت مصر.
مفهوم الحفاظ على الدولة الوطنية، الذى انتهجته مصر خلال السنوات الست الماضية، هو الذى جعلها قادرة الآن على مواجهة هذا الوباء القاتل، بعد أن دارت عجلة الإنتاج فى كل القطاعات، ونجحت خطة الإصلاح الاقتصادى، التى انطلقت منذ 4 سنوات، وبفضل الله أولا، ثم بفضل هذا الإصلاح الاقتصادى استطاعت الدولة المصرية أن تقف صلبة فى مواجهة الأزمة، ولم تمد يدها شرقا أو غربا تطلب المساعدة و”النجدة” كما فعلت دول أخرى كثيرة فى مواجهة ذلك الوباء الغادر.
على الفور تحركت الحكومة، وخصصت 100 مليار جنيه حزمة أولى لمواجهة تداعيات فيروس “كورونا”، وإلى جوار ذلك كانت هناك حزمة أخرى من المبادرات، أطلقها البنك المركزى، لمساعدة القطاعات المتضررة فى الدولة، خاصة السياحة والسفر والصناعة وغيرهما من القطاعات.
الثلاثاء الماضى كان يوما مختلفا، لأنه ـ على الطبيعة ـ كان يوم تأكيد مفهوم الدولة الوطنية القوية ـ بكامل أجهزتها المدنية والعسكرية ـ والمستعدة لمواجهة الأزمات والطوارئ على مختلف الأصعدة، التى تتحرك بقوة فى التوقيت المناسب قبل أن تتفاقم الأمور ـ لا قدر الله ـ ويرتبك المشهد ويصبح أكثر صعوبة وتعقيدا.
فى الهايكستب، حيث كان مشهد اصطفاف عناصر ومعدات وأطقم القوات المسلحة المستعدة لمعاونة القطاع المدنى فى مكافحة “كورونا”. هذا المشهد كان ترجمة عملية لمفهوم “الدولة الوطنية” وقوتها حينما تتضافر فيها جهود قواتها المسلحة مع أجهزتها المدنية لمصلحة شعبها، وتتكامل فيها هذه الجهود لسد كل الثغرات المحتملة، وتضع سيناريوهات وخططا بديلة لمواجهة كل الاحتمالات.
شاهدنا نماذج عملية للمستشفيات الميدانية الجاهزة للانتشار بعد إعدادها وتجهيزها، حيث نجحت هيئة الإمداد والتموين، التابعة للقوات المسلحة، فى توفير مستشفيات تتسع لأكثر من 500 مريض مبدئيا، وهى المستشفيات المتحركة التى يمكن أن تتم إقامتها فى أى مكان على أرض مصر إذا استدعت الضرورة ذلك.
وإلى جوار المستشفيات الميدانية، ظهر المخزون الإستراتيجى من سيارات الإسعاف، وأوتوبيسات نقل المرضى، وأسطول التطهير والتعقيم، والإسعاف الطائر، والطواقم الطبية المدربة على أحدث الوسائل فى مواجهة ذلك الوباء اللعين.
ليس هذا فقط، بل إن ماكينة الإنتاج فى القوات المسلحة تحركت وبسرعة لتغطية العجز فى “الكمامات” و”الأقنعة والبدل الواقية” وكل ما يتعلق بالمستلزمات الطبية اللازمة للطواقم الطبية فى التعامل مع المرضى، حتى لا ننتظر وقوع الأزمة، ثم نبدأ نبحث ونطلب مساعدة الآخرين والاستيراد فى وقت لن نجد فيه آذانا مصغية بسبب انشغال كل دولة بحالها، وأيضا نتيجة إغلاق معظم الدول أبوابها فى وجه الآخرين بسبب الحجر الصحى الذى فرضته كل دولة على نفسها، مما أدى إلى توقف حركة الطيران والنقل تقريبا.
دارت خطوط الإنتاج التابعة لهيئة الإمداد والتموين، لتنتج أيضا ملايين “الكمامات والأقنعة والبدل الواقية” التى تكفى الاستهلاك المتوقع على تلك النوعيات خلال المرحلة المقبلة.
من هنا جاء انفعال الرئيس عبدالفتاح السيسى فى أثناء جولته التفقدية المفاجئة فى مواقع العمل والإنتاج الخميس الماضى، حينما شاهد العمال يعملون وهم غير مرتدين الكمامات، فكان تأكيده ضرورة توفير الكمامات لكل العمال دون أعباء عليهم، وأن تلتزم الشركات بذلك، لتوفير أقصى درجات الحماية للعاملين.
ولأن مواجهة “كورونا” ليست علاجا ودواء ومستلزمات طبية فقط، وإنما تمتد أيضا إلى ضرورة توفير المخزون السلعى المناسب من الأغذية والمواد التموينية، فقد تحركت الدولة بكامل طاقتها، لتحقيق هذا الغرض، حيث أكدت الحكومة، على لسان د. على المصيلحى، وزير التموين، توافر الاحتياطى الإستراتيجى من السلع الغذائية والمواد التموينية بما لا يقل عن 3 أشهر فى بعض السلع، ويزيد إلى أكثر من 10 أشهر فى بعض السلع الأخرى، بما يطمئن المواطنين وينفى كل الشائعات المغرضة والمريضة.
ليس هذا فقط، لكن فى إطار تكامل الدولة الوطنية القوية، فقد كشف اللواء مصطفى أمين، رئيس جهاز مشروعات الخدمة الوطنية، عن جاهزية الجهاز لتوفير كل المستلزمات السلعية والتموينية اللازمة لأكثر من مليون مواطن لمدة تزيد على 3 أشهر من كل السلع اللازمة للمعيشة الحياتية، بدءا من اللحوم ومرورا بالبقوليات والأرز والخضراوات، وانتهاء بالمخابز المتحركة الجاهزة للانتقال إلى مواقع الأزمات والطوارى، للعمل بكامل طاقتها من أجل تغطية احتياجات المواطنين فى تلك المناطق.
فكرة جهاز مشروعات الخدمة الوطنية، التابع للقوات المسلحة، هى فكرة عبقرية، ولها تاريخ طويل يمتد لأكثر من أربعة عقود، فهى ـ كما أخبرنى اللواء النشيط والدؤوب أحمد خليفة, مدير الشئون المعنوية بالقوات المسلحة, لا تتعارض مع جاهزية القوات المسلحة، كما يردد أهل الشر والمتربصون والكارهون، لنجاحات الشعب المصرى حيث إن هذا الجهاز يحتضن فائض الوعاء التجنيدى للشباب، مضافا إليه العمالة المدنية، ليقوم الجهاز بدور رائع ومتميز فى توفير المقومات الاقتصادية للقوات المسلحة، وفى الوقت نفسه يخفف العبء عن ميزانية الدولة المصرية، فى إطار المسار التكاملى لمنظومة القوات المسلحة والدولة المصرية دون تعارض.
منظومة عبقرية ورائعة من أجهزة الدولة المصرية بكل قطاعاتها المدنية والعسكرية، أثبتت نجاح مفهوم “الدولة الوطنية” فى مواجهة جميع الأزمات وأصعب المواقف منذ ثورة 30 يونيو، بدءا من كسر شوكة الإرهاب، وإنقاذ الدولة المصرية من السقوط، ومرورا بالنجاح فى تحدى الإصلاح الاقتصادى الصعب والمعقد، ويبقى النصر ـ إن شاء الله ـ على فيروس “كورونا” خلال المرحلة المقبلة بفضل تكاتف الدولة بكل قطاعات المدنية والعسكرية مع شعبها وقيادتها، لتخرج مصر أقوى مما كانت، وتتفرغ لتنفيذ مهام الإصلاح الاقتصادى الهيكلى، كى تتحول مصر إلى “صين العرب وإفريقيا” فى المنظور القريب، من خلال توطين التنمية وتوفير الحد الأدنى والضرورى من الاكتفاء الذاتى فى الغذاء والدواء، بما يكفى حاجة الاستهلاك المحلى، وتصدير الفائض إلى الدول الأخرى.