يوما ما..
سيمر كل مر..
سيمضي كل ضر..
وستغدو كل الأشياء التي أرقتك يوما..
محض ذرات لا تُرى..
بعد أن كانت تثير الزحام بداخلك..
وتصطنع للضجيج ألف عاصفة في أعماقك..
لدرجة أن يضيق بك المدى فلا يسعك..
وكأن نوبات مدك لا يحتوي تلاطم أمواجها شطآن..
أو كأنما صراخك المكبوت بداخلك يحتاج فضاءً من سبع سماوات..
ستغدو يوما..
محض خيالات غذاها التطلع..
وسقاها استشراف غد لم يكتب لك..
وعنى بها قلب مثخن بجراحات قديمة كوشم حفر على حجر..
فلا تمحى..
ولا تنسى..
حتى تجحفلت..
وصارت بزمن ما..
ماردا عملاقا..
ضاقت منه الأنفاس..
وكادت أن تنفجر رئتاك..
يوما ما..
ستنزوي تلك المسافات مهما تباعدت..
ليدين لناظريك منها ما كان يأخذك الجهد فيه كل مأخذ..
ولا ينالك إلا كما ينال الجفن إذا أُغمض على القذى..
سيصبح أمامك..
ذلك الذي كنت تموت بالأمس لأجل أن ترى طيفه..
يجيء ويروح..
ومع ذلك لن يشكل فارقا أبدا..
كأنك لم تعد تراه..
أو..
كأنك يوما ما حلمت به ولا زاور خيالك خياله..
بل كأنه لم يوجد أصلا..
هو لم يمت يقينا..
بل ماتت تلك الأشياء القديمة..
التي لأجلها نصبت له تلك الصومعة بين ضلوعك..
وظللت العمر تقيم حولها نسك أشواقك..
وتراتيل قرباك..
مات..
ذلك الاسم و المعنى الذي عزفه الناي الحزين يوما بداخلك كل مقامات الموسيقى..
وكنت تشد وتره على قوس أنات تهز ضلوعك..
ليكون مقرونا استعذاب العذاب بالعذاب..
فلا بالجنان تدرك الجنان..
ولكن بالضنى تدرك قيمة النعيم..
ثم كان..
أن تماهت تلك السجايا التي أخذتك للمرة الأولى..
تلك السيما الملائكية..
وخلال الأنبياء..
أو هكذا ظننتها وقتها..
عند أول نظرة..
عند أول خفقة..
عند أول خيبة تجرعتها..
ولم تكن تدري أنك تنسج لها ثوبا من الصبر..
لتغطي سوءة قلبك التي تتكشف رغما عنك لتسترق النظر إليها أعين العابرين من كل واد..
وكأنها رقعة باهتة في ثوب داكن..
وتعتق لها ألف كأس لتصبها حتي يفيض الكأس..
ستزول قيمة الزمن..
وتنهار قدسية الأماكن في عينيك..
فهذا مكان كنت تراه الوجه الآخر للجنة..
ما عاد كما كان..
يوما ما..
ستنسى كل شيء..
ما كان..
ما هو كائن..
وما سيكون..
لو كان..
كيف الطريق إلى النسيان يكون..
والمعلوم أن النسيان يكون لماض..
ولأنك جئت إلى الدنيا مختلفا عن البقية..
فقد كتب في قدرك أيضا أن يكون نسيانك مختلفا..
فيحتل الأزمنة جميعها..
الماضي..
الحاضر..
والمستقبل..
وكأنك آثرت أن تفقدك إلى الأبد..
لا لرغبة في النسيان..
ولا لتجاوز مرارة الحرمان..
ولكن..
لأن الخذلان علمك أن تترك بعضك كلما مررت في أرض جمعتك بذلك الراحل..
وكأنها أحمال تلقى من على عاتق مرهق..
وأن ما تلقيه منها..
بلا طائل..
وقد جاء الدور الآن على الذاكرة..
ستسقط جدرانها طوعا..
تنقض عمادها اختيارا..
وتقد قميص خلاياها لتنزوي مكوناتها رويدا رويدا فتموت..
ويموت معها أمام ناظريك دون حزن..
ذلك الذي أورثك كل هذا الحزن..
فسبحان من جمع في ذات واحدة..
نقيضين..
بأحدهما كنت تموت بالأمس..
وبالآخر..
تنشد الحياة لغد..
وبرمادية ما بينهما من مسافة..
ذلك التيه الذي قضيته وأنت لا تدري أمن الأحياء أم من الأموات أنت؟!..
فهل يجوز لميت أن يشتكي جوعا وعطشا؟!..
وهل يجوز لحي أن يساكن الموتى؟!..
حتى يقتاته الصمت..
ويذيقه الليل غصة الوجع دون أن تبلغ الروح الحلقوم..
فيموت قبل الموت..
مرات ومرات..
وهو يظن أنه يشتري الحياة..
فكم من وهم عبأ به جنباته وهو لا يدري..
لله در سعي..
كان للهباء قد نذر..
عذرا..
في إثر ترح يغتال ما اخضر من الروح ذات زمن..
أُسقط قلمي الأخرس الآن من على صهوة الحبر..
ليقول..
أنه ما اعتلى الورق فارسا كما يزعم له..
لكنه جاهلا أفرغ سجله فانسابت الكلمات..
فسامحوني..
(نص موثق)..
النص تحت مقصلة النقد..
بقلمي العابث..