الجزء الأول
تحسست وجهها الصغير وملامحها الرقيقة وعينيها المتسعتين وأنفها المستقيم، وأخذت ألتمس الدفء من ذاك الوبر الخفيف الذي سجى رأسها، ويا لبراءة وجهها وابتسامة شفتيها الورديتين، فعندما انفتح ثغرها قلت في نفسي سبحان الله! كيف ستصبح أجمل من ذلك حينما ترتص حبات اللؤلؤ لتزين هذا الجمال ببريق يضئ بين وجنتيها؟!
وكأنها قمر هادئ عندما تغمض عينيها وتغلق فمها عند النوم إذا ما حل المساء، وشمس تضئ حياتك بضحكة ثغرها وبريق تلك الآلئ المكنونة بين فكيها، أنظر إليها فأتأكد أن المولود مبارك باسمه؛ فهي يُمْنَى كما اسمها فقد اختار لها والدها ذاك الإسم تيمنًا بمعناه المسجي بالسعادة والمباركة والتيمن الذي حث عليه ديننا الحنيف، فكانت مباركة الجمال، وضحكتها تنشر السعادة، وأشعر أنها تمتلك قلبًا ورديًا كما شفتيها ينبت منه ورود رقيقة تحنو عليك فيا لجمالها!!
يضم ثغرها اللؤلؤ وقلبها الورد، فشردت في عينيها وغرقت حتى بلغت أعماق ذاكرتي وحيّنا العتيق وبنايتنا القديمة، وأبي الذي كنت أقبل عليه مهرولة وأنا ذات السنتين من عمري فيعانقني ويحتضن أصابعي الصغيرة يقارنها بأصابعه فقد كانت تشبهها كثيرًا، بل كانت وكأنها هي، وأمي التي تضمني لصدرها في المساء تداعبني وتلاعبني وتغدق عليّ من تحنانها وتغني لي حتى أستسلم لنوم عميق وعالمي الجديد ينتظرني، كانت أمي دافئة كما الوسادات الناعمة المطرزة بالحب، والحليب من يديها كأنه مصنوع خصيصًا لقلبي لا معدتي، ورائحتها الطيبة المميزة كانت تأخذني لعالم من الأحلام السعيدة، وحكايات الناس عن شجاعة أبي وجمال هيبته ووقاره تشد رأسي للأعلى وتقيم ظهري وكأنه يعضدني، والتفافي مع اخوتي حول الأطعمة الساخنة الشهية ونرسم إثر أبخرتها قلوبًا على ذاك الجدار الزجاجي الذي يفصل بين الغرفة والشرفة التي تطل على جيراننا الطيبين، وظللت شاردة هكذا حتى أصغيت لصراخها فالتقطتها مني أمها وأخذت تهدهدها، واستأذنت أنا لأرحل، وقد تركت في عينيها عبير ذكرياتي التي ربما شعرت به وتركت في قلبي أثرًا لا أفقه وصف جماله، واستكملت مسيري لمنزلنا وقادتني قدماي لبنايتنا وقادني ذهني نحو فتاتي الملونة التي كلما فتحت دفتري لأكتب عنها أيقظني أحدهم من سباتي العميق في حكاية حياتها حتى تركتها فقلما جلسنا سويًا ولكن لم أتخيل يومًا أن القدر سيجلسني معها حقيقة، نعم! لقد شعرت نحوها أنها تشبه فتاتي التي وصفتها في دفتري فتعالوا معي نستمع منها عن حياتها، أنا يُمْنى أحب الرسم والقراءة، أحب كل ما هو فن، نشأت في بيت لأم حنون وأب يهوى العلم وترتيل القرءان وأخبار الكرة وشتى الفنون، في اليوم الأول من التحاقي بورشة الرسم كنت لا أختلط بفتيات سني، وكنت أيضًا غير منفتحة لمصادقة الصبيان كما حال المراهقات من نفس مرحلتي العمرية، كان أبي يصطحبني للمقرأة فترتوي روحي بالقرءان وكانت أمي تعلمني فنون الطبخ والحياكة فقد كانت حياتي رتيبة وروتينية نوعًا ما، حتى ألتحقت بالجامعة وبالأخص كلية الفنون الجميلة رغم حصولي على مجموع عال لكنني دافعت من أجل حلمي وخالفت العادات والتقاليد وماراثون الجري نحو الطب والهندسة لإيماني بموهبتي، كنت أحب الجامعة وربما لا أبالغ إن قلت متيمة بجدرانها وكان أساتذتي يشجعونني ويحتفون بلوحاتي المميزة ولكن حياتي لم تدم بذاك الهدوء والإنجاز فبينما أسير من جامعتي لسكن الطالبات رأيت…. نستكمل غدًا