تدرك الحركة الصهيونية بأن الصراع حول تفسير الماضي والادعاء بامتلاكه، إنما هو صراع من أجل الهيمنة والسيطرة على الحاضر، وبالتالي فإن كتابة التاريخ حسب الرواية اليهودية هي توظيف للتاريخ لخدمة الأهداف السياسية التي تسعى لتحقيقها، وهنا، أي في الحالة الفلسطينية، لم يكن الأمر مجرد توظيف للتاريخ فحسب؛ بل ابـتداعاً لتاريخ جديد بكل معنى الكلمة.
ومن منطلق إدراكها لخطورة علم الآثار والتنقيبات وقدرته على هدم الرواية الإسرائيلية من أساسها، فقد تواصلت المحاولات الصهيونية للالتفاف حول هذا العلم وتطويعه لدعم وجهات النظر اليهودية، أي بعبارة أخرى “تزييف الحقائق التاريخية”.
ولهذا الغرض، فقد تولى فريق من المنقبين والمؤرخين مهمة كتابة التاريخ وفق الرؤية الصهيونية، مستندين فقط إلى التوراة كمصدر تاريخي، الأمر الذي كان يدعوهم في كل مرة إلى تحليل البيانات بما يتناسب مع الأحكام المسبقة التي يريدونها
أي ليّ ذراع الحقيقة بأدوات علمية زائفة، وكانت نقطة البداية اختلاق كيان يدعى “إسرائيل القديمة” أو “المملكة الموحدة” وعاصمتها أورشليم، والتي يقصد بها مملكة سليمان وداود، وتصويرها على أنها كانت إمبراطورية، بينما هي في حقيقة الأمر لم تكن أكثر من شبح تاريخي أنتجه الخيال اليهودي، تجد له دوافع سياسية واضحة في الوقت الحاضر.
بعد حرب حزيران (يونيو) 1967، صار بإمكان المنقبين الإسرائيليين البحث في الأرض المحتلة، وفي مقدمتها القدس، وقد امتزجت في البداية فرحة الجنود المنتصرين في الحرب مع فرحة الساعين للحفر والتنقيب فيها، فراح المنقبون بلهفة كبيرة يركضون وراء حلمهم الجميل بالعثور على أدلة تاريخية تسند روايتهم، وقد شعروا أن فرصتهم الذهبية قد حانت، وأنه بات في مقدورهم أن يلحموا الشعب الإسرائيلي القديم بوطنه التاريخي، وأن يبرهنوا على صدقية مزاعمهم في تدعيم حلقات روايتهم عن تاريخهم القديم، غير أن هذه الفرحة لم تحصل أبداً، وحماسهم بدأ يفتر شيئا فشيئا كلما تقدموا بالبحث، حتى أصيبوا بخيبة أمل كبيرة.
وقد توهم هؤلاء الصهاينة أنه بمجرد إعادة رسم الخرائط وإطلاق الأسماء التوراتية على الأماكن سيعطيهم ذلك الحق بملكيتها، واليوم نرى بوضوح كيف أن الإسرائيليين يحاولون إضفاء شرعية دينية تاريخية لاحتلالهم فلسطين، وذلك عن طريق تغيير أسماء القرى العربية وإعطائها أسماء توراتية في محاولة مكشوفة لإثبات أن لهم حقاً تاريخياً بها، ولكن الحقيقة التي يجهلها الكثير أن هذه الأسماء هي أصلا أسماء فلسطينية كنعانية كانت سائدة قبل وأثناء وبعد الوجود الإسرائيلي في فلسطين القديمة. وأبرز مثال على ذلك تغيير اسم القدس إلى أورشاليم، مع العلم بأن أورسالم هو الاسم الكنعاني اليبوسي القديم للمدينة.
وإذا كانت خرافات وأوهام الرواية اليهودية قد انطلت على الكثيرين ولمدة طويلة، فإن التنقيبات الأركيولوجية التي تلت حملة نابليون على الشرق وما نتج عنها من فك رموز الكتابات الشرقية القديمة قد نقلتنا مباشرة إلى العصور الموغلة في القدم، لنفهم التاريخ كما هو بالضبط، ولتمدنا بحقائق لا يرقى إليها الشك، ولتتضح تلك الصورة الغامضة والمشوهة التي طالما دأبت الحركة الصهيونية على ترسيخها في الذاكرة البشرية وعملت على إحاطتها بهالة من القداسة والسحر، ليصعب على العالم فهم الحقيقة التاريخية المجردة عن تاريخ بني إسرائيل.
والآن بعد أكثر من قرنين من عمليات التنقيب والجمع والتحليل التي بذلها علماء كبار في علوم التاريخ والآثار واللغات القديمة وبشكل خاص في تفسير الوثائق التاريخية التي دونتها تلك الشعوب التي صنعت أحداث وتاريخ المنطقة، تكون قد تكونت لدينا صورة واضحة عن تاريخ المنطقة التي يدعي اليهود أن لهم أصولاً فيها، وعليه فقد بدأت تتهاوى شيئا فشيئا تلك الادعاءات الكاذبة عن وحدة الشعب اليهودي وأصوله، وتاريخه المتسلسل، ونقاء عرقه، وحقوقه الدينية
ترتكز فلسفة الحركة الصهيونية على مجموعة من الشعارات والأساطير شكلت منها صلب خطابها السياسي وبنيتها الفكرية، ومن أهمها أسطورة أرض الميعاد، وشعب الله المختار، وشعار أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، والادعاء بنقاء الجنس اليهودي وتفوقه، وتسلسل تاريخه عبر حقب تاريخية متصلة، وتستمد هذه الشعارات قوتها من فكرة المملكة الموحدة، وإسرائيل القديمة، والأصول النبيلة لليهود التي ترجعها نصوص التوراة إلى إبراهيم.
وفي سفر الملوك، تصل قصة إسرائيل التوراتية ذروتها عند أخبار الملك سليمان، وهي مليئة بالمبالغات غير المعقولة، كما هو الحال عند الحديث عن العصر الذهبي في أساطير وخرافات الشعوب، بحيث نرى كل ما هو عجيب ومدهش وخارق، وتصف المملكة بيوتوبيا الأرض التي تنعم بالأمن والخيرات، ومن الطبيعي أن لا يكون على رأس هذه اليوتوبيا إنسان عادي بل رجل حكمة وعقل تفوق قدراته العقلية والروحية والجسمية ما نعرفه عن البشر.
مع تشكيل الكيان اليهودي لأول مرة في أورشليم عقب عودة المسبيين من بابل في الفترة الفارسية تكون القصة التوراتية قد دخلت عتبة التاريخ، من هذا المنطلق يكون فهمنا لحادثة السبي البابلي على يد الملك الكلداني نبوخذ نصر عام 586 ق.م لرعايا مملكة يهوذا كحادثة تاريخية من جهة، وكفكرة ملهمة في سياق القصة التوراتية من جهة أخرى.
وسواء أكان مع العائدين بعض المسبيين من يهوذا، أو بقايا من رعايا المسبيين من إسرائيل، إلى جانب شعوب أخرى فقدت ارتباطها بأوطانها الأصلية بعد مرور وقت طويل على اقتلاعها منها، وقبائل أخرى كانت تبحث عن حظوظ جديدة في المناطق التي تخطط الإمبراطورية لإعادة تعميرها، فضلا عن القبائل التي كانت ما زالت تسكن فلسطين وتعاني من أوضاع اقتصادية ومعاشية مزرية ولا تمانع في العيش في ظروف أفضل، ومهما كان الشعب الذي نُقل أو أُعيد إلى فلسطين قسراً أو طوعاً؛ فهم بكل تأكيد لم يكونوا إسرائيليين (بالمعنى التوراتي) لا إثنيا ولا روحياً، ورغم ذلك أصبح الفرس يعتبرونهم إسرائيليين، وأصبحوا هم يعتبرون أنفسهم سكان إسرائيل المفقودة منذ زمن، والعائدين إلى أرض إسرائيل من منفى مرير، بعد أن خلصهم سيدهم ومنقذهم “كورش”، وهكذا بمساعدة الفرس تم تحديد الهدف: إعادة ديانة يهوه القديمة.
هذا الخليط غير المتجانس عرقيا ولا إثنيا ولا حتى ثقافيا الذي استوطن القدس وجد نفسه أمام خيارين: إما القبول بشريعة الملك الفارسي والتكيف مع القوانين الجديدة أو مواجهة أقصى العقوبات –كما ورد في رسالة داريوس إلى أهل أورشليم– ولا شك بأن المجتمع الأورشليمي الجديد قد أخذ بالخيار الأول.
وكعادة رجال الدين على مر العصور الذين يجدون مبرر وجودهم ويستمدون امتيازاتهم ومكتسباتهم من خلال التركيز على وحدة الطائفة والعزف على الوتر الديني والفكر اللاهوتي الغيببي، فقد أخذ كهنة أورشليم المهمة على عاتقهم في ابتكار رابطة طائفية لهذه الجماعة الجديدة، وابتكار أصل وتاريخ وتراث لها وغيرها من المبررات الأيديولوجية اللازمة لنشوء مجتمع ودين جديدين، وبذلك انكبوا على تدوين التوراة وابتداع هذا الدين اليهودي الجديد، فهذا الذي تم إحياؤه في أورشليم لم يكن إحياء ليهوذا القديمة أو لإسرائيل القديمة ولا استمرارا لهما بأي حال من الأحوال، بل هو خلق جديد لمجتمع قوامه فئات اجتماعية مختلفة ومتعددة تحاول أن تخلق لنفسها كيانا بدعم من الإمبراطورية الفارسية بعد أن تقاطعت مصالح الطرفين.
ومنذ نشأتها في القدس، وضعت دويلة يهوذا نفسها في إطار الدور الوظيفي كمحمية فارسية تؤدي دورا معينا، وفيما بعد متحالفة مع كل الغزاة الذين تعاقبوا على البلاد، الأمر الذي جعل منها كيانا غريبا وطارئا يفتقر للعمق الحضاري، وذا تركيبة سكانية غير منسجمة مع النسيج الاجتماعي، ومتقاطعة مع الدور الحضاري للسكان الأصليين، وبالتالي ضعفت الأواصر التي تربطها بالأرض وتلاشت بسهولة فيما بعـد.
أي أن الشعب اليهودي في مرحلة التأسيس في أورشاليم، كان قد توحّد حول مشروع سياسي/أيديولوجي معين، وكان حينها مجرد قبول هذا المشروع هو الذي يحدد انتماء الإنسان إلى اليهودية، ولم تكن اللغة والأرض أهم مركبين، فعندما عاد المسبيون من بابل كانت لغتهم هي الآرامية، وفي الإسكندرية كانت لغة اليهود هي اليونانية، واليوم فإن التوراة مكتوبة بعدة لغات، أي حسب أماكن سكنى اليهود
والأرض التي تُوحِّدُ الشعبَ -كما هو الحال لدى بقية الشعوب- دامت لليهود لفترة مؤقتة محدودة. ومنذ خراب الهيكل لم تعـد كذلك، أي أن الشعب الذي بلور كيانه حول مشروع معين واكتسب خصائص مميزة به في مرحلة وجوده فوق أرض مشتركة، وامتلاكه لغة واحدة، وقبل أن يصل مرحلة النضوج فـقد الأرض واللغة مرة واحدة، وبهذا بقي المشروع مجسدا فـقط بالتوراة، وبالتالي لم تعـد اليهودية تعبر عن قومية معينة.
ولأن القاعدة السكانية لهذا المشروع لم تكن متجانسة إثنيا أصلاً، ولأن المشروع نفسه وُجد ونُمّي على هامش الطموحات التوسعية للإمبراطورية الفارسية وبدعم منها، ولأنه وظّف نفسه كليا في خدمة هذه الإمبراطورية وجميع الإمبراطوريات التي تلتها في حكم المنطقة، وكان تأثره شديدا وجوهريا بالثقافات التي مرت عليه، كل ذلك أدى به إلى هذه النهاية المدوية ودخوله مرحلة التيـه التاريخي بالمعنى الوجودي والموضوعي.
وتسعى الرواية اليهودية لتثبيت أسطورة “المساداة”، واضطهاد الرومان لهم، وذلك في محاولة منها لتبرير الخروج اليهودي من فلسطين، والانقطاع التاريخي عنها لقرون طويلة، وحول هذا الموضوع يؤكد عدد من المؤرخين أنهم في سياق بحثهم عن التمرد المفترض الذي وقع في الحقبة الرومانية (66 ~ 70م) لم يجدوا في السجلات الرومانية الغنية بالتوثيق ولا حتى إشارة واحدة إلى حدوث أي عملية نفي أو طرد من أرض فلسطين، التي كانت تحت حكمهم آنذاك.
كما أن مسألة تهجير آلاف اليهود ظلت تثير سؤالا لم يجد حلا بعد: كيف خرجت هذه الأعداد الكبيرة دون أن تترك خلفها أثرا؟ فلم تدل الشواهد التاريخية على أي سلطة أو مملكة أو حتى قرية يهودية واحدة في المناطق التي هُجروا إليها. والواقع أن أحبار اليهود تركوا البلاد طوعا، لأنهم فضلوا الديانة على الموطن. وطوال الحقبة الرومانية وما تلاها شهدت فلسطين فترة من الهدوء
لم يقم اليهود خلالها بأي أعمال تذكر، وعاشوا كطائفة محلية لا تتمتع بأي مزايا سياسية، وكان الاتفاق الذي نظم العلاقات بين السلطات الرومانية واليهود يقضي ببقاء اليهودية كديانة داخلية مع تحريم أي نشاط تهويدي، وبقاء إدارة المؤسسات المحلية التي أخذت منهم بأمر من هدريانوس وكذلك المحاكم الدينية، أما موضوع القدس فلم تتنازل السلطات الرومانية بشأنه، وبقيت محرمة على اليهود ومغلقة في وجههم حتى الفتح العربي الإسلامي في عهد الخليفة عمر بن الخطاب.
دكتور القانون العام ومحكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان