- شوارع حارتنا العتيقة، يقتلها السكون، بعد أن رحل عنها اغلب سكانها، ووصل العطب والنشع جدران بيوتها، فلم تعد قادرة علي البقاء طويلاً، كثيرة تلك البيوت الخاوية من سكانها، أتحسس موضع قدمي بين أكوام من القمامة عند مدخلها، الذي كان ملجاء لنا ونحن صبية، نجتمع ونلعب ونجري وكانت ضحكاتنا تعلوا إلي حد الإزعاج لعمي “محمد” الذي كان يسكن البيت الأول والطابق الأول، كان يجري خلفنا نختفي كل منا في اتجاه، ينتظر قليلا ثم يعود الي داخل بيته، هنا بيت قد انهار، ومازال الركام يغلق نهر الشارع، ألمح بقايا صور قديمة بين الركام، حاولت الوصول إليها، فهذا البيت هو بيت البنت التي كنت أحبها في ريعان شبابي قبل زواجها وهجرتها إلي هناك في البلاد الباردة، كنت اتخيلها وقد إختفت ملامحها بين رهاف معطفها الشتوي، سنوات عديدة مرة وأنا اتحسر علي وفائي لها، وغدرها لقلبي الذي عشقها، بين الركام لمحت بقايا صورة لها، عيناها ناظرة بدلال، شعرها الأسود الطويل الذي كان يتطاير خلفها ونحن نلعب صغار هنا في تلك الحار، جلست لأنتزع تلك الصورة برفق، حتي لا تتمزق ويتمزق معها قلبي الواهن، اخرجتها، مسحت بقايا الأتربة من عليها، نظرت إليها مالياً، تذكرت أول مرة قبلتها هنا في مدخل هذا البيت ونحن صغار حين عودتنا من المدرسة،وعندما ظهرات حبات المشمش واخذتا تتكوران ،خلف فتحة المريلة،كانت تحاول اخفائيها بحقيبتها المدرسية،وانا أراقب نموهما بتلهف وشبق ذكوري،حاولت أن اقطف شهوتي إليهما مراراً،لكني كنت أخاف أخيها الضخم، وابيها سليط اللسان،أخبرتني ذات مرة أن أمها دائما تقول لها (اياك ان تجعلي احد يلمس حبتين المشمش فهما تاج فوق جسمك البكر)،كانت دائما تزيد من فتحة البلوزة حين تراني،لأنها كانت تعلم شغفي بهما،حاولت ان اعبر النهر من امنبع إلي المصب علي أتلمن الدفيء في أحضانهما، كان قلبي ينبض لها حبا وعشقا، سحبت الصورة إلي الخلف نظرت إليها مرة أخري، وتسألت أين اخفيها إذا رجعت بها الي بيتي، في الحي البعيد علي أطراف المدينة منذ تزوجت وأحضر إلي تلك الحارة كل فترة لزيارة أمي وأبي قبل رحيله، القيت الصورة مرة أخري فوق الركام، هل تعيد الصورة روح حبيبتي ؟؟
هل تعيد لي ايام الصبا مرة اخريوقد تجاوزنا الخمسين عام من اعمارنا؟؟
هل ستمسح تلك الصورة المتهرئة دموع وأوجاع عنيتها منذ رحيلها حتي اليوم؟؟
لا، ستفتح فقط نوافذ أوجاع جديدة، لا طاقة لي بها في هذا الوقت، تركتها وعدت إلي نهر الشارع، أستكمل العودة إلي بيتنا في آخر الحارة لعلي أستفيق، واتلمس الراحة في حضن أمي، التي هزمتها الشيخوخة وكانت تجلس علي كرسي متحرك في تلك الشرفة الخشبية التي زينتها ببعض النباتات الزهرية تؤنس وحدتها بعد أن رفضت الانتقال للعيش معي متشبسة بذكرايتها وعمرها في تلك الحارة، لمحتني ابتسمت، امسكت بالرشاش تروي الزروع وانا ارفع نظري اليها، ولمحت صورة حبي القديم وقد تطايرت مع الرياح شمالا ويمينا، وانا احاول التخلص من نبضات الحنين إليها.
كاتب مصري