“الغول” .. و”خيانة عهد” .. و”لؤلؤ” ..أبرز تجلياتها
كتب د.صلاح عبادة
لا شك أن النفوس تلتذ وتهدأ، والصدور تشفى وتسكن بتحقيق العدالة، لا سيما إذا جاءت سريعة وناجزة. ولكن ماذا لو تأخرت العدالة المؤسسية، أو غابت، لأي سبب من الأسباب؟ هل ينبغي أن يكون تحقيقها باللجوء إلى الحل الفرديّ، فيُقابل الشر بالشر، والجريمة بالجريمة، والجنون بالجنون مع ما يستتبع ذلك من انفلات وفوضى اجتماعية وأخلاقية وتربوية وأمنية؟!
على الصعيد الدرامي، مسلسل “لؤلؤ”، الذي بطلته وكاتبة قصته الفنانة ميّ عمر وشاركها البطولة فيه الفنان أحمد زاهر، وأخرجه محمد عبد السلام، وأعد له السيناريو والحوار محمد مهران، والذي انتهى عرضه في فبراير الماضي (2020) على فضائية ON E)) ؛ مسلسل “لؤلؤ” هو أحدث تجلٍ أثار هذه الظاهرة الجدلية. فهل كان ثمة مبرر درامي واضح لاختيار “ميّ” ( كاتبة وممثلة) طريق الحل الفردي ونبذ العدالة المؤسسية جانبا؟! أو هل كان لجوؤها إلى الحل الفردي ناتجا عن قصور في العدالة أو عن قِصر يدٍ منها؟
الغريب أن بطلة المسلسل، ربيبة الملجأ، المهرة الجامحة “لؤلؤ” اختارت، طائعة وبملء إرادتها، الانتقام الشخصي بيدها، لا بيد القانون، من صديقتها رفيقة الملجأ الحاقدة الخائنة “مروة” (هدير عبد الناصر) ، ومن حبيبها الطامع المخادع “بدر” (محمد الشرنوبي) الذي اغتصبها وصورها ليساومها، ويقبض ثمن تجنبها الفضيحة، وكان انتقامها الهادئ الشرير من خلال الإيعاز لكل منهما وتحريضه على قتل الآخر بدس السم له في الطعام ( وهو ما يُعرف بالجريمة القذرة).
وقد باغتنا المسلسل في حلقاته الأخيرة، بنقلة درامية غير متوقعة، ودون أية إرهاصات ممهدة، في شخصية “لؤلؤ”، فبعد أن ظل مشاهدوها طوال أكثر من ثلاثين حلقة يعيبون عليها إفراطها في التسامح، وجدوا أنفسهم – فجأة – أمام شخصية بالغة القسوة، عتيدة في الإجرام، لا تعرف للتسامح لغة ولا طريقا ( وإذا كان تبرير ذلك راجعا دراميا إلى تربيتها داخل الملجأ، وهو مؤسسة تهذيبية تأهيلية، فما الحاجة إليه إذن، الشارع حينئذٍ أرحم بكثير!!).
جنون الانتقام الفردي أدى إلى تعقيد الأمور وتفاقمها، والوصول بها إلى طريق مسدود، وكان بإمكانها (وهي النجمة الثرية القادرة المشهورة، كثيرة الأنصار وأولهم زوجها رجل الأعمال القوي “طارق نصار”) كان بإمكانها سلوك طريق العدالة العلنية الواضحة لاسترداد حقها وتجنيب مدير أعمالها “مجدي” (إدوارد) مصير الإعدام؛ لأنه اختار، هو أيضا، الطريق السهل، فقطع العقدة بدلا من حلها، بقتله خادع “لؤلؤ” وطمس أدوات المساومة؛ وذلك وفاءً من “مجدي” بمسئولية حب صامت وصادق كان يكنّه لـ”لؤلؤ”، في تناصّ واضح مع قول وحيد حامد على لسان بطله “أحمد زكي” في فيلم “اضحك الصورة تطلع حلوة” عندما قال: “كلمة بحبك عقد” أي تترتب عليه مسئولية.
إن كل هذا العنف: قتل اثنين، خارج مؤسسة القانون(بدر ومروة)، وضياع ثالث(مجدي)، وإفلات قاتلة بجرائمها من العقاب ، وما يرسخه ذلك من فوضى في أذهان المتلقين وخاصة الشباب ؛ لهو الثمرة المرة للحل الفرديّ الذي آثره المسلسل وجعل منه تيمته الرئيسية. ولعل الوجه الإيجابي لهذه المقاربة الدرامية هو تبشيع الحل الفرديّ في نفوس عشاق الصورة الدرامية الساحرة، واسعة الانتشار، عميقة التأثير.
التجلي الثاني لظاهرة اختيار الحل الفرديّ في استرجاع الحقوق في الدراما المصرية الحديثة، هو مسلسل “خيانة عهد”، الذي عُرض في رمضان الماضي (2020) بطولة يسرا، وإخراج سامح عبد العزيز، ومن تأليف أحمد عادل سلطان، وأعد له السيناريو والحوار كل من: أمين جمال، ومحمد أبو السعد، ووليد أبو المجد.
يحتدم الصراع بين “عهد” (يسرا) مالكة مصنع الملابس، وإخوتها، وتستعر المشاحنات والضغائن بسبب الأحقاد الأسرية حول تقسيم الميراث فيما بينهم. وتتعرض “عهد” لمؤامرة، من أقرب المقربين إليها، ويروح ضحية تلك المؤامرة ابنها “هشام” (خالد أنور) الذي يُقتل على يد أختها الطبيبة “فرح” (حلا شيحة) بعد أن تجعل منه مدمنا على تعاطي المخدرات، دون أن يشعر، إذْ كانت تخلطها بدوائه، الذي كانت تصر على إعطائه إياه بنفسها, ولم يرقَ الشك إلى “فرح”؛ لتمتعها بثقة أختها، ولتظاهرها بحبها الشديد لابن أختها، جامعة بذلك بين خيانتين: الخيانة الإنسانية، والخيانة المهنية.
وتتجمع في يد “عهد” كل خيوط المؤامرة، فقد كانت تمتلك قوة روحية إضافية خاصة تظهر في قراءتها للفنجان. وبدلا من أن تتوجه “عهد” بتلك الأدلة إلى جهات الاختصاص العقابية المنوط بها إيقاع القصاص العادل بالمجرمين؛ تقرر اختيار طريق الحل الفردي؛ وتحيك، بدورها عدة مؤامرات بذهنية إجرامية فائقة، تروح ضحيتها أختها “فرح” الشيطان المتخفي في قناع ملاك، وأخوها “مروان” (خالد سرحان) وزوجته “نادية” (عبير صبري).
وبكل التأكيد لا يستطيع أحد أن يمنع أحدا من استرداد حقوقه الضائعة، ولكن خطورة الحل الفرديّ أن صاحب الحق قد يأخذ أكثر من حقه، ويفلت بجرائمه، فيختل ميزان العدالة، فينقلب المجنيّ عليه جانيا.. وهكذا في دائرة جهنمية، تكرس لسيادة شريعة الغاب ومنطق الوحوش.
أما التجلي الثالث والأخير في هذه العينة، غير المستقصية، فهو فيلم “الغول”، الذي يُعد التجسيد الأمثل لفكرة اللجوء إلى الحل الفرديّ، عندما تُحجب العدالة المؤسسية خلف سدود منيعة من الجاه والسلطان وامتلاك كل أسباب القوة المادية والمعنوية.
صدر فيلم “الغول” عام 1983 ، وأخرجه سمير سيف، وبطله الأول هو الراحل وحيد حامد (كاتبا) ثم عادل إمام (بطله التراجيدي)، وفريد شوقي تمثيلا، وهو الفيلم الذي أثارت نهايته (قتل الكاشف قتلة بشعة بالساطور أمام رجاله) لغطا كثيرا؛ لأنه جاء بعد مقتل الرئيس السادات في حادث المنصة الشهير أكتوبر 1981، وسط رجاله ـ أيضا ـ ومحاولة البعض الربط بين الحادثين .
تسيطر على وحيد حامد فكرة العدالة المطلقة، فيجسدها في ذلك الفيلم الأيقونة (الغول). ففي مقاربة إسقاطية على الواقع المصري، يستدعي وحيد حامد قانون “ساكسونيا”؛ ليسائله من منظور انتقاديّ ساخر؛ فقانون “ساكسونيا” ينحاز انحيازا مجحفا إلى طبقة النبلاء وعلية القوم من الطبقات الحاكمة والأثرياء، ضد طبقة الفقراء والمهمشين من عامة الشعب حيث كان يجري – بمقتضى هذا القانون – تنفيذ عقوبة الإعدام على أحد أفراد الشعب بأن يُقطع رأسه قطعا حقيقيا؛ بينما تنفذ العقوبة نفسها بطريقة هزلية ساخرة، إذا كان القاتل أحد أفراد طبقة النبلاء أو أحد أفراد الطُّغْمة الحاكمة، إذ كان يؤتى بالقاتل ليقف في الشمس وكان يُقطع رأس ظله!!
على امتداد الفيلم يجسد عادل إمام شخصية الصحفي “عادل” (لاحظ اختيار شفرة الاسم المشتق من العدالة) الذي ينحاز إلى الفقراء والمستضعفين ويريد أن يحقق لهم العدالة دون مهادنة أو محاباة، مهما كلفه الأمر.
وتشاء الأقدار أن يكون الصحفي “عادل عيسى” شاهد عيان على جريمة قتل “نشأت الكاشف”(حاتم ذو الفقار) لعامل البار الفقير “مرسي السويفي”.
عبثا يحاول “عادل” استرجاع حق عامل البار وأسرته الفقيرة المكلومة، و ينجح في تقديم نجل “فهمي الكاشف”(فريد شوقي) رجل الأعمال الأخطبوط إلى المحاكمة، ولكنه يصطدم بجبروت “الكاشف” الذي يمتلك، إلى جانب الثروة والجاه، ترسانة من أساطين القانون المدججين بكل أسلحة النفوذ من ثغرات القانون والإفلات من العقاب وتضليل العدالة. وتمر الأيام طويلة وثقيلة على الأسرة المقهورة وعلى الصحفيّ الأعزل، إلا من شرف المهنة والتمسك بقيم العدالة والمساواة، ويصدر حكم ببراءة ” الكاشف”؛ فيصاب “عادل” بيأس وإحباط هائلين، يؤديان به إلى اختيار الحل الفردي والتضحية بنفسه، بقتل “فهمي الكاشف” نفسه.
وللوهلة الأولى قد يلتمس البعض العذر(مع الامتعاض) للصحفي “عادل عيسى”؛ لأن سبل العدالة المؤسسية قد سُدت في وجهه وقانون ساكسونيا يقف حائلا بينه وبين تحقيق العدالة التي يحلم بها. ولكن “وحيد حامد” كاتب محنك، وذو رؤية ثاقبة، وبصيرة نافذة، ومعالجة متزنة وموزونة بميزان فكري ودرامي حساس، فإذا كان، من جهة أولى، يحذر ويلوح (ضمنا) بأن غياب العدالة أو تأخرها، قد يؤدي إلى الحل الفردي، فإنه على الجهة المقابلة يرفض رفضا قاطعا هذا الحل الفرديّ المنفلت. أو بعبارة صارمة: إنه يرفض قانون ساكسونيا الجائر المحابي ويرفض بنفس القدر من القوة قانون الغاب، الذي يقود إلى الفوضى والاضطراب. وهذا ما يضعه على ألسنة أبطال فيلمه، فعقب مقتل “الكاشف” يسأل وكيل النيابة “حسين” (صلاح السعدني، وهو رمز العدل والقانون) صديقه الصحفيّ القاتل “عادل”: “ليه قتلت الكاشف؟” فيرد عادل: “عاوز أخلص الناس من قانون ساكسونيا”. فيعقب “حسين” حزينا مبتئسا:” بس كده رجعت لهم قانون الغاب يا صديقي”، ويشرع وكيل النيابة في تطبيق الإجراءات القانونية، وهي الرسالة الجوهرية للفيلم، والتي ينبغي لها أن تكون رسالة الدراما المصرية؛ لإحداث التوازن النفسيّ الرادع في نفوس مشاهديها وخاصة فئة الشباب والمراهقين المتمردة، التي تعبد القوة الفردية الجامحة، التي يُرسخها دون وعي – أحيانا – في الأذهان، عصر الصورة الدرامية الكاسحة.
“الأسبوع” 1مارس 2021