لا شك أن جميع الأمم والأديان قد اهتمت بالأخلاق اهتماما بالغا منذ فجر الحضارات الأولى. وكان للطب وأخلاقيات المهنة نصيب وافر لدى الحضارة السومرية والبابلية والآشورية واشتهر قانون حمورابي وكان موضوع ضمان الطبيب والعقوبات عليه تشكل : المواد من 218 إلى 222 ، وظهر في الحضارة المصرية القديمة تعليمات الطبيب امحوتب( إله الطب) ، وذلك منذ 4800 سنة من عصرنا الحالي .
واشتهرت اليونان بالطب منذ عهد اسقليبوس الطبيب الذي جعلوه أيضا إلها للطب ثم ظهر أبقراط ( القرن الخامس قبل الميلاد ) ، وتحول الطب على يديه الى علم يدرس ، وهو صاحب القسم المعروف بقسم أبقراط (Hippocrates) ، وقد استمر هذا القسم منذ ذلك العهد واستخدمه المسلمون بعد تعديله .
وكان لابد لمن يريد ممارسة الطب أن يقسم هذا القسم عند تخرجه من كلية الطب . ثم بدأت بعض الجامعات وكليات الطب في التخلي عن هذا القسم في الثلث الاخير من القرن العشرين .
وعندما ظهر الاسلام قبل أربعة عشر قرنا كانت تعاليم الاسلام كلها تركز على الأخلاق
قال تعالى : (( وإنك لعلى خلق عظيم )) سورة القلم:4
وقال صلى الله عليه و سلم :
” إنما بعـثـت لأتـمـم مـكـارم الأخـلاق“
” إنمــا الأعـمــال بالـنـيـات، وإنمـا لكل امـرئ ما نوى ” أخرجه البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم: ” من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن ” أخرجه أبو داود .
وقال صلى الله عليه وسلم:“ المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل الخير“.
يقول العز بن عبدالسلام في كتابه قواعد الأحكام :“ الطب كالشرع وضع لجلب مصالح السلامة والعافية ولدرء مفاسد المعاطب والأسقام“.
ومنذ فترة مبكرة قرر فقهاء الاسلام ان الشخص لا يمكن ان يمارس الطب الا اذا كان قد درس الطب على يد الأطباء المعترف بهم رسميا وسمحوا له بذلك ، ووضعوا نظام الحسبة ( مراقبة الأطباء وغيرهم ) وذكر الفقيه المالكي عبد الملك بن حبيب الاندلسي(ت 236هـ) في كتابه الطب النبوي أن على الطبيب أولا أن يأخذ إذن الطبيب المحتسب ثم يأخذ اذن العليل (Patient) أو وليه إذا كان قاصرا أو فاقد الأهلية . وإذا مارس الطب بدون هذين الشرطين كان ضامنا وتقع عليه عقوبة اضافية يقررها القاضي .
وكانت المبادئ البقراطية المشهورة في قسم ابقراط توجه الأطباء في سلوكهم معتمدة على:
مبدأ الإحسان ( عمل الخير ) Beneficence
مبدأ عدم الضرر maleficence Non
ومبدأ حفظ حرمة المريض وسره Confidentiality
وكان الطبيب في المبادئ البقراطية يتصرف بما يراه مناسباً للزمان والمكان، وشخصية المريض الذي يعالجه، ولم يكن يُعطي اعتبارا كبيراً لرغبات المريض العاقل البالغ، بل كان هو يتولى ما يراه الأصلح وهو ما يعرف اليوم بالأبوية Paternalism .
ولكننا نرى منذ فترة مبكرة اتجاها مغايرا لدى فقهاء المسلمين حيث أوجبوا على الطبيب أن يحصل على إذن بممارسة مهنة الطب من المحتسب، ثم لابد له من إذن المريض أو وليه.
وقال الأمام النووي في روضة الطالبين : ( ولو قطع السلعه أو العضو المتأكل من الشخص المستقل بغير أذنه فمات ، لزمه القصاص لأنه متعدي) .
و لا نرى هذا الاهتمام بإذن المريض إلا في العصور الحديثة وبالذات من بداية السبعينات من القرن العشرين حيث ظهر مفهوم الإذن المتبصر الواعي Informed Consent ولم يعد يكفي إذن المريض أو وليه إذا لم يكن المريض قد فهم نوعية الإجراء الطبي أو الجراحي أو أي نوع من أنواع الفحوصات Invasive Procedures
اهتم الطب الحديث بمفهوم استقلالية المريض Autonomy اهتماما بالغاً، ويندرج تحت مفهوم استقلالية المريض Autonomy قدرته على اتخاذ القرار بقبول العلاج أو رفضه المبني على المعلومات الصحيحة والواضحة من الفريق الصحي، المقدم لهذه الخدمة الصحية .
وركزت أخلاقيات مهنة الطب على جانبين أساسين في أخلاقيات المهنة وهما:
الفلسفة النفعيةUtilitarianism (جيرمي بينثام و جون ستيوارت ميل) ويمكن تلخيصها في المفهوم الفقهي الإسلامي “المصلحة” ، ولكن المصلحة في المفهوم الإسلامي محدّدة بمفهوم الشرع، وهي المصلحة المعتبرة شرعا، وكل مصلحة لفرد أو جماعة تناقض الشرع أو مصالح الأمة أو تضر بالآخرين فهي مصلحة مهدرة.
فلسفة تأدية الواجب (عمانويل كانت)
ويندرج تحت مبدأ احترام شخصية المريض مبدأ استقلالية المريض Autonomy والإذن المتبصر الواعي Informed Consent ومبدأ الإخلاص والأمانة Fidelity ومبدأ الصدق Veracity ومبدأ المحافظة على سر المريض Confidentiality.
ولم يكن الطبيب في المبادئ البقراطية يلتفت إلى المجتمع بأي حال من الأحوال، وهي المبادئ التي استمرت حتى بداية أو منتصف القرن العشرين.
وباتساع دور الطبيب والخدمات الصحية كان من الواضح أن هناك قصوراً في المبادئ البقراطية في جانب المجتمع وعدالة توزيع الخدمة الصحية.
وقد أهتم المسلمون منذ العصر العباسي في عهد الخليفة المقتدر( القرن العاشر الميلادي ) بإرسال الأطباء والأدوية إلى الأرياف والنجوع والقرى البعيدة كما اهتموا بمداواة المسجونين والأسرى، اهتماما بالغاً.
وشهد النصف الثاني من القرن العشرين تطورات سريعة ومتلاحقة في المفاهيم الطبية. وطالت هذه التغييرات المتسارعة المهنة الطبية.
أصبح يطلق على المريض اسم العميل Client وعلى الطبيب اسم مقدم الخدمة الصحية Health Provider. واستطاعت أفكار السوق والعمل التجاري (Business (Consumerism، أن تغزو المهن الصحية على نطاق واسع. وكان للولايات المتحدة الدور الريادي في هذا التحول ، وازداد شراسة بدخول عصر العولمة.
وتمكنت الشركات الضخمة في المجال الصحي وصناعة الأدوية أن تسيطر على النظام الصحي في الدول المتقدمة ، وبالتبعية دخلت جميع الدول الأخرى تحت عباءتها وتأثيراتها.
واستطاعت الولايات المتحدة بإيجاد نظام السوق والعمل التجاري في المهن الطبية أن تطور هذه الخدمات من ناحية ، ولكنها من ناحية أخرى جعلت أكثر من أربعين مليون مواطن أمريكي بدون أي تأمين صحي على الإطلاق. واستطاعت كوبا رغم الحصار والمحاربة أن يكون مستواها الصحي أفضل بكثير من مستوى أربعين مليون أمريكي بدون تأمين صحي.
ولا توجد عدالة في النظام العالمي الجديد حيث يذكر ان دخل أغنى 100 شخص أكثر من دخل 3 ألاف مليون من البشر، أغلبهم في العالم الثالث . وقصة افريقيا وامراضها المرعبة وخاصة الايدز والايبولا دليل على انعدام العدالة في توزيع الثروات والخدمات الصحية في عالم اليوم . وهو ما ينذر بكوارث متتابعة لن ينجوا منها أحد الا إذا غيرنا هذا النظام العالمي الى نظام أكثر عدالة وإنسانية .
و مع التطور الطبي التكنلوجي الهائل ظهرت مواضيع جديدة في تقنية الانجاب مثل مشاريع أطفال الانابيب واختيار جنس الجنين والفحص قبل الانغراز PGD والتدخل في الامراض الوراثية الجينية ، وآخرها زرع ميتكوندريا من امرأة متبرعة في بويضة امرأة اخرى تحمل في طياتها مرضا وراثيا عبر الميتوكوندريا .
وبذلك يكون للجنين أبا وأمان ( الأم الأصلية والام التي ساهمت بجزء ضئيل من الجينات الموجودة في الميتوكوندريا ) وقد أقر البرلمان البريطاني هذا الاجراء لانقاذ الطفل . وهو موضوع لم يبحث بعد لدى المجامع الفقهية الاسلامية .
وهناك مئات القرارات الفقهية حول الامراض الجينية والخلايا الجذعية وزرع الاعضاء بما فيها الاعضاء التناسلية وعمليات الجراحة التجميلية Cosmetic Surgery وعمليات تغيير الجنس ، وموضوع منع الحمل والإجهاض وموضوع موت الدماغ وحالات الإنعاش الرئوي القلبي DNR ومتى يتوقف العلاج إلى غير ذلك من القضايا التي سيساهم الفقه الإسلامي هذا في القاء الضوء الكاشف على ما جدّ منها .
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان