”أن الصهيونيين أدركوا ما سها عن بال العالم العربي : أن التاريخ تقرره الأعمال الحاسمة لا الحجج القانونية، وأن قيام دولتهم أو تلاشيها يتوقف على قوتهم لإنجاز الأمر المفعول لا على مقدرتهم على المماحكات الشرعية، وأن الوسائل الإذاعية والمفاوضات السياسية كلها لا قيمة لها على الاطلاق في تقرير شكل التاريخ إلا إذا استندت على قوة حاسمة تنفذ إرادتها ، وأن التوازن السياسي والصراع الدولي هما في النهاية توازن قوى واقعية لا صراع حجج ” .
هذا الكلام المهم جدا ورد في وثيقة خطيرة لأحد كبار الدبلوماسيين العرب قبل 72 عاما . فقد كتبها الدكتور شارل حبيب مالك (فبراير 1906 – ديسمبر 1987) الوزير المفوض اللبناني في واشنطن ومندوبها لدى الأم المتحدة في 5 أغسطس عام 1949 في تقرير بعنوان ( في الوضع الحاضر ) .وقال أنه كتبه في 4 نسخ ، 3 أرسلها لكل من زارة الخارجية اللبنانية ولرئيس الجمهورية والثالث لرئيس الحكومة والرابعة احتفظ بها لنفسه .
هذا التقرير الخطير ( والذي كان سريا لمدة 20 عاما ) أصبح متاحا لكل المواطنين العرب، ولكل قراء العربية بعد نشره للمرة الأولى في مجلة ( قضايا معاصرة ) التي كانت تصدر عن صحيفة النهار اللبنانية في أكتوبر عام 1969. وقالت الصحيفة أنها حصلت على النسخة من رياض الصلح رئيس حكومة لبنان في ذلك الوقت ، يرحمه الله.
واحتوى التقرير الخطير على 35 قضية جوهرية تتعلق بحاضر ومستقبل الصراع العربي الاسرائيلي حول فلسطين ، وموقف القوى الكبرى والمنظمات الدولة من هذا الصراع . وأتوقف في مقالي اليوم عند إحداها والتي لا تزال ممتدة حتى الان وهي:
”سر تثقيل وزن العرب هو أن ينقلوا إتكاليتهم من كونها على الظروف والعوامل الخارجية واللا إنسانية إلى أن تصبح على التخطيط العقلي والمسئوول وعلى العوامل الإنسانية الداخلية “. وهنا أقول وبكل وضوح وبدون مواربة أن العرب لم يعملوا بهذه النصيحة الجوهرية رغم مرور 72 عاما على تقديمها من قبل دبلوماسي عربي مخلص عاصر أخطر الأحداث في السنوات القليلة التي أعقبت نهاية الحرب الحرب العالمية الثانية، وهي تأسيس منظمة الأمم المتحدة بتوقيع ميثاقها في 26 يونيو عام 1945 في سان فرانسسكو ، حيث شارك الوزير المفوض شارل مالك ممثلا لدولة لبنان في توقيعه ، والحدث الثاني إعلان قيام الكيان الاسرائيلي في 15 مايو عام 1948 على أرض فلسطين المغتصبة .وكان شارل مالك العربي الوحيد الذي شارك في صياغة وإعداد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في ديسمبر 1948 بصفته رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة. ومحليا شغل منصب وزير الخارجية ، منصب وزير التربية والفنون الجميلة في الحكومات اللبنانية .
وبالتأكيد لم يقرأ العرب التقرير لأنهم لا يزالون منذ قيام الكيان الإسرائيلي وحتى الأن عاجزين عن إستثمار المقدرات الكبرى المادية والبشرية التي يمتلكونها بطريقة تزيد من وزنهم الإقليمي والدولي ، وترجح كفتهم في الصراع مع الكيان الاسرائيلي ومع القوى الإقليمية والدولية الطامعة في السيطرة على المنطقة العربية .
ولا يزال العرب في كل مؤتمراتهم الجماعية وبياناتهم الفردية تتعلق بالصراع مع اسرائيل ، يناشدون المجتمع الدولي ، أو بالأحرى يستجدونه للتدخل لوقف العدوان الإسرائيلي ، ولحماية الشعب الفلسطيني. ناسين أو متناسين أن المجتمع الدول هو الذي زرع إسرائيل في المنطقة بقرار دولي ، ورعاها ولا يزال يرعاها حتى اصبحت أكبر قوة مسيطرة في المنطقة .
وقد نبه التقرير صراحة إلى ذلك بقوله : ” في كل تعارض جوهري بين المصلحة الإسرائيلية والمصلحة العربية ستؤيد أمريكا المصلحة الإسرائيلية “. وقد تجلى ذلك عمليا في حرب غزة الأخيرة عندما منعت أمريكا مجلس الأمن الدولي من إصدار بيان إدانه للعدوان الإسرائيلي.
وقد أكد على تجاهل العرب لهذا التقرير الكاتب الصحفي غسان تويني (1926 – 2012 )، وهو صحفي وسياسي ودبلوماسي لبناني والذي قال في مقدمة التقرير :” هل نتجنى على أحد إذا قلنا أننا لم نجد في تاريخنا الدبلوماسي على أن أحد قرأ هذا التقرير في حينه بالعناية المطلوبة ؟، وإذا قرأه أحد على فهم مداه ؟ . ونمضى في التساؤل : وإذا كان أحد قرأ التقرير وفهم ، فماذا في سياستنا يفيد أن حكامنا لبنانيين وعرب قد اتعظوا وخططوا لمثل السياسة المتكاملة التي يدعو اليها التقرير؟ ، كي نصون كياننا كشعب بل كأمة “.
وللموضوعية أستثني من ذلك فترة حرب أكتوبر( رمضان) 1973 والتي تم خلالها حشد جزء بسيط من القوة العربية ، فأحدث تغيرا في ميزان القوى وبالتالي في مجرى الصراع لصالح العرب . ولكن سرعان ما زال أثره بفعل تآمرقوى محلية عربية وأخرى دولية ، ففرغت نصر أكتوبر من مضمونه الحقيقي تحت مزاعم التوجه نحو السلام الذي لم ولن تعرفه اسرائيل ، لأن تأسيسها واستمرارها مبني على القوة العسكرية والحرب باعتراف قادتها المؤسسين .
وحاليا يعيش العرب حالة من التغير الإيجابي لصالحهم بسبب إنتصار المقاومة الفلسطينية في حرب غزة في مايو عام 2021 وتمكن المقاومة بإمكانياتهم العسكرية البسيطة من إحداث توازن رعب مع إسرائيل شهد به الإسرائيليين أنفسهم والعالم كله . وهي الفرصة الثانية التي حصل عليها العرب بعد حرب أكتوبر 1973 ،ويجب عليهم أن لا يفرطوا فيها ، ويعملوا على لملمة قواهم وحشدها حتى تثقل موازينهم وتترجم إلى إنجازات بالحصول على حقوقهم المسلوبة على طاولة المفاوضات التي يتم الإعداد لها حاليا .
وفي الختام أتوجه بخالص الشكر والتقدير لأخي وصديقي الدكتور عبد الباقي أبو زيد أستاذ المناهج في كليات التربية بمصر والبحرين على إرساله لي نسخة إلكترونية من هذا التقرير.
Aboalaa_n@yahoo.com