الأميرة الحمدانية جملا ابنة عم سيف الدولة الحمداني، ابنة الملوك الَّتِي كانتْ بحقٍّ ملكةً في نفسها. فكانتْ منقطعةَ النظير، ضربَ النَّاس بها الأمثالَ في الجود والسخاء إنَّها هي التي، أو التي هي.
هاهي تذهب إلى الحج، وكم من أميراتٍ يذهبْنْ كل عام إلى الحج، لكنَّ التاريخَ يذكر حجَّةَ جملا، ذهبتْ في أربعمائة محمل على لون واحد، فأنفقتْ في تلك الحجة ألف ألف وخمسمائة ألف دينار، ونثرتْ على البيت (الكعبة) لما رأتْه عشرة آلاف دينار، وزوَّجَتْ كلَّ شابٍ وفتاةٍ من نسل النبي، وأعدَّتْ للفقراء خمسمائة بعير تحملهم عليها في الطريق، ولم يوقد في الحرم مدة إقامتها إلا بشمع العنبر، وأعتقتْ ثلاثمائة عبدٍ بمكَّةَ، ومائتي جارية. وكستْ المجاورين بالحرمين، كأنَّها الخيرُ صُبَّ صبّاً كالمطر على من حضر تلك الحجة.
كانتْ شديدةَ الجمال، لكنَّها عزفتْ عن الزواج، لمَّا وجدتْ أنَّ كلَّ الزيجات التي تتمُّ من أجل المصالح السياسية، فرفضتْ أنْ تتزوَّج ابن الخليفة لمَّا وجدتْ أنَّه زواجٌ لهدف سياسي.
كانتْ تعرف للعلماء قدرَهم، فتكرمهم، وكانتْ كثيرةَ القراءة، ولها مكتبةٌ خاصةٌ جمعتْ فيها الكثيرَ من الكتب، قريبةٌ من الله، تسمعُ العظاتِ، وتكثر من الصدقات، وتقوم الليل.
أحبَّها فارسٌ من كبار فرسان الحمدانيين، لكنَّه فهم أنَّها تحبُّ المتنبي الذي لم تره، لم تخبره بأنَّها تحبُّ المتنبي، لكنَّه وجدها تسأله ما الذي يدفع شاعراً كالمتنبي ليمدح من ليس عربياً، لاشك أنَّها الظروف الصعبة هي التي دفعتْه إلى ذلك، وطلبتْ من الفارس أنْ يعرف ظروفه، وإذا كان هناك ما تستطيع هي فعله فهي مستعدةٌ، وهنا قال لها :
ـ الآنَ صرتُ متيقناً أنَّكِ تحبينه !
فلما سألتْه لماذا ؟ قال لها : لأنكِ تبحثين له عن العذر قبل أنْ تلوميه. وهكذا أحبَّها الفارسُ، وترك قلبَه عندها، لكنَّه احترم حبَّها الكبير للبعيد الذي لم تره، وظلَّ المتنبي لا يعرفُ بهذا السرِّ، حتى ماتتْ، وماتتْ زوجتُه، هنا أخبر الفارس المتنبي بحبِّ جملى له، وهنا تبدأ قصةً حبِّ جديدة يقوم بها المتنبي للغائبة، كما أحبَّتْه وهو بعيد، أحبَّها وهي هناك في الآخرة.
يهاجم البويهيون الموصل وكعادة الأمير حسن الحمداني ناصر الدولة ابن عمها، كلما هُوجمتْ الموصل، يتركها إلى أعالى الجبال، هو ورجاله، ثم لا يلبث أنْ يرجع ثانيةً بعد زوال الهجوم، هذه المرة، كان الذي يقوم بالهجوم أشد الأعداء : عضد الدولة البويهي، فكان الهربُ من الأسرة الحاكمة متعجلاً، ووجدَتْ جملا نفسَها في القصر وقد رحل أهلُها إلا ابن عمها، كان حريصاً على جمع المال فحسب.. قالتْ له :
ـ أهذا ما يشغلُكَ ؟؟ ونحن، نساؤكم، أعراضكم.. ؟؟
ثم رفضتْ أنْ ترحل معه، فلم تحب أنْ ترافق رجلاً لا نخوة له، وبقيتْ في القصر وحدَها، يهرب الجميعُ، لكنَّها ترفض أنْ تهرب.
يدخل عضد الدولة البويهي القصر، فلا يجد أحداً سوى تلك الْمَرْأَةِ الشجاعةِ التي استهانتْ بالدنيا، فرخصتْ عندها الحَياة، يعجب البويهي الشغوف بهزيمة الأقوياء بتلك المرأة الشجاعةِ، فيعفو عنها، ويأمر ألا يُسلَب قصرُها، ولا تؤخذ أسيرةً، وقال:
ـ جمالٌ كهذا ممزوجٌ بالشجاعة حرامٌ أن يٌؤخذَ إلى الأسر..
علمتٌ أنَّه لن يلبث بعد أنْ يرجع إلى بلاده أنْ يطلبها إلى الزواج، لكنَّها لا ترى في الزواج بهذه الطريقة زواجًا ، فالزواج أنْ تستطيع أنْ تقول لا، أو نعم، لكن هذه المرة لن يكون هناك إلا اتجاهٌ واحد، أنْ تقول نعم، لأنَّ العريس لا يمكن أنْ يقال له: لا، لأنَّه الرجل الذي يتحكَّم في الخلفاء أنفسهم، يخلع هذا وينصِّب ذاك، ولو أراد أنْ يقوم بحملة جديدة على الموصل، ما استطاع الأميرُ ابن عمها أنْ يقف له، ولهرب إلى الجبال كعادته.
وبالفعل يرسل البويهي إلى عمها يطلب يدها للزواج، ويميل عمُّها إلى الموافقة بحجة أنَّها أطالتْ رفض عروض الزواج، لكنَّها كانتْ تدري أنَّه يريد الموافقة لأنَّه لا يتحمَّل عاقبةَ الرفض، ولا يلبث ابنُ عمها الأمير أنْ يحضر إليها ليعرضَ عليها طلب البويهي لها بالزواج، فتصرُّ على الرفض :
ـ لماذا ؟؟ إنَّه ملكٌ ؟؟
ـ لن أتزوَّج رجلاً عفا عني ولا يترك لي خياراً، يَا عَمَّاهُ، لقد دفعتَ أنتَ له لتبقى أميراً على الموصل، وفوق المال.. تقدِّم له الْمَرْأَةَ التي يريدها !
ـ كما تعلمين أنَّ عضد الدولة رجلٌ عنيدٌ وشرسٌ، وقد يهاجم الموصل إذا عرف أنَّكَ تترفعين عنه..
ـ لقد كان هنا، وكان يستطيع أنْ يفعل أي شَيْء، لكنَّه لم يفعل أي شَيْء.. ليثبت على حسابنا أنَّه شهم ونبيل.
ـ كفاكِ غلواء.. وتكبرًا..!
ـ أي تكبر؟؟ إنِّني أرفض الغازي الذي عفا عنِّي.. !
وهكذا أعلنتها عاليةً :
ـ لا أقبل الزواج بهذه الطريقة، لن أكون أداةً في تحالفاتكم يا ابن عم..
لم يكنْ عضد الدولة يريد إلا عنادَها، لقد رآها دولةً عصيَّةً وأراد أنْ يكسرها، لهذا لم يحتمل صلابتها، واعتبر ردَّها إهانةً تستدعي تكرارَ الحملةِ على الموصل مرةً أخرى، ويدخل الْمَدِينَةَ الخاليةَ من حمايتها، فلا ينهبُ إلا قصرَها، ويسلبُها كلَّ مجوهراتها، وكلَّ ما تملك، ويطيحُ بمكتبها العامرة، ويأتيه جنودُه بها..
ـ كنتُ أودُّ أنْ آخذكَ عروساً في موكبٍ يليقُ بكَ، لكنكِ أبيتِ إلا أن آخذكِ بالقوة،فأنتِ لا تبخسين الناسَ حقَّهم فحسب، بل تبخسين نفسكِ أيضاً حقَّها..
ـ وتظنُّ أنَّكَ ستحقِّقُ بالقوة ما عجزتَ عن تحقيقه بالمكر والدهاء؟؟
يأخذها أسيرةً إلى بغداد، يعجبُه عنادُها، فهي في استعصائها عليه تشبه الدولةَ المنيعةَ التي يقتحم مناعتَها، يرى الْمَدِينَة وهي تسقط في يده كالْمَرْأَة التي تقاومه فيكسر مقاومتها كأنه يغتصبها، وهاهي امرأةٌ منيعةٌ تتعصَّى عليه، كم يودُّ لو يكسر مقاومتَها كأنَّه يغتصبها.
وهاهو مرةً أخرى وهي أسيرةٌ بين يديه، يعرضُ عليها الزواجَ، لتكون زوجةَ عضد الدولة..
ـ إن التسوُّلَ في الطرقات أهونُ عليَّ من أنْ أتزوَّجَ مثلكَ !
ـ ألا تخافين أنْ أغتصبَكَ.. ؟
ـ تتمنى لو تفعلُ، فما أنتَ إلا رجلٌ تافه، في داخله وحشٌ، لكنَّه لا يريد أنْ يسقط قناعه عن وجهه الحقيقي للناس.
فيضربُها.. ويقولُ لها :
ـ أنا لا أقربُ إلا الْمَرْأَةَ التي تظلُّ ساهرةً طيلةَ الليلةِ تنتظرني..
ـ وغدٌ لا تعرفُ الحياء.. !
ـ رفضتِ أن تكوني زوجةً، ورفضتِ أن تكوني خليلةً، ليس عندي لكِ إلا أنْ تقومي بدور خادمة، تخدمين موائدي، وتلاطفين ندمائي..
ـ يبدو أنَّكَ تتقنُ هذه الأمورَ؛ لأنَّكَ قوَّادٌ بطبعكِ، أو لأنَّ أمكَ كانتْ تفعل ذلك..
ويضربُها مرة أخرى..
في الغد يرسلُ رجلاً إليها، ليس لتخدم موائده، بل ليصحبَها للخدمة في ماخور، حيث يلتقى الرجال بالنِّسَاء، وتدور كؤوس الخمر.
وهنا لم يعد الجبلُ يستطيع أن يحتملَ، لقد كانتْ آمنةً من الاغتصاب من عضد الدولة، لأنَّه لا يريد أن يكشف حقيقته بأنَّه تافه حقير، لكن في الماخور، لن يهتم أحدٌ أنْ يبدو حقيراً في نظرها، هنا تلقي نفسَها في نهر دجلة، فتموت.
أيكون انتحاراً من تموت لتحمي عرضها ؟ ألم يقم أحد السلاطين بإغراق نساءه في النهر حتي لا يقعن سبايا في يد الأعداء، فليس الموت إذن لحفظ العرض انتحاراً.
وكذلك ظلَّتْ غاليةً في عين كل من عرفها حتى بعد أنْ عرف بانتحارها، ظلَّ الفارس الحمداني يحبُّها، ولمَّا علم المتنبي بأنَّها كانتْ تحبُّها، لم يعد يحبُّ أحداً سواها، ونحن نقول لكِ يا جملى :
ـ ونحن أيضاً أحببناكِ عن بعد كما أحببتِ أنتِ المتنبي عن بعد، وكما أحبًّكَ بعد ذلك المتنبيُّ على بعد البعد، بعد أنْ علم بعد موتكِ أنكِ كنتِ تحبينه، ظللْتِ حبيبته الوحيدة..
يقول المتنبي عنها :
وَكيفَ التذاذي بالأصائِلِ وَالضّحَى إذا لم يَعُدْ ذاكَ النّسيمُ الذي هَبّا
ذكرْتُ بهِ وَصْلاً كأنْ لم أفُزْ بِهِ وَعَيْشاً كأنّي كنتُ أقْطَعُهُ وَثْبَا
وَفَتّانَةَ العَيْنَينِ قَتّالَةَ الهَوَى إذا نَفَحَتْ شَيْخاً رَوَائِحُها شَبّا
لهَا بَشَرُ الدُّرّ الذي قُلّدَتْ بِهِ وَلم أرَ بَدْراً قَبْلَهَا قُلّدَ الشُّهْبَا
فَيَا شَوْقُ ما أبْقَى ويَا لي من النّوَى ويَا دَمْعُ ما أجْرَى ويَا قلبُ ما أصبَى
لَقد لَعِبَ البَينُ المُشِتُّ بهَا وَبي وَزَوّدَني في السّيرِ ما زَوّدَ الضّبّا
وكأنَّ روحَّها ذابتْ في الماء ليشربَ روحَها كلُّ من شرب من الماء، وإنْ كان عروة بن الورد يوزِّع جسمَه في جسوم كثيرة، فها هي ابنة الموصل تبثُّ روحها في قومها، كونوا مثلي، فواللهِ ما يقدر عليكم عدوٌّ في الشرق ولا في الغرب..