لا تقل الحماية الدولية عن غيرها من مواضيع القانون الدولي أهمية, و لا تقصر عن غيرها في إثارة الخلافات الفقهية والقانونية, للوقوف على حقيقة هذا المصطلح, فالحماية الدولية تمثل في بعض الأحيان فعل من المجتمع الدولي لتجنب انتهاك حقوق الأنسان, وفي الأغلب ردة فعل على انتهاك هذه الحقوق. على ما تقدم, يعد من الأهمية بمكان توضيح المراد بالحماية الدولية,
إذ أن ذلك ضروري لتحديد نطاق عمل اتفاقيات الحماية الدولية, ومعرفة أين تبدأ وأين تنتهي. عليه وللإحاطة بمفهوم الحماية الدولية, سنتناوله في فرعين, سيكون الفرع الأول مخصص لتعريف الحماية الدولية لحقوق الإنسان لغةً واصطلاحاً, ثم بيان مصادرها, أما الفرع الثاني سيتناول موضوع تطور الحماية الدولية ووصولها إلى ما وصلت اليه, وكذلك أهمية الحماية الدولية في الوقت الحاضر.
يعتبر موضوع الحماية الجنائية الدولية من بين الموضوعات الأساسية المثارة على الساحة الدولية في عصرنا الحالي، ولعل ذلك يتزامن مع موجود صراعات مسلحة دولية، ألا أن الأهمية الكبرى لهذا الموضوع تكمن في مدى ارتباط هذه الحماية بحقوق الأنسان التي كانت
ولاتزال محل اهتمام الدول. وتعد المحكمة الجنائية الدولية الألية القضائية الدولية التي تجسد مفهوم الحماية الجنائية من خلال تكريس مبدأ المسؤولية الجنائية الفردية في العقاب على مرتكبي الجرائم الدولية التي حددها النظام الأساسي للمحكمة،
وعلى اعتبار أن المحكمة الجنائية الدولية تهتم بحماية حقوق الأنسان بما توفره من حماية إن فكرة الحماية الدولي لا زالت من الأفكار الحديثة نسبياً في مجال حقوق الأنسان,
إذ أن مفهوم الحماية ظهر لأول مرة بالنسبة لحماية الأقليات في معاهدة وستفاليا عام 1648, وذًكرت أيضا في بروتوكول مؤتمر فينا الموقع عام 1815, ووردت حماية الأقليات في اتفاقيات أخرى أخذت توقع تباعاً, مثل معاهدة التنازل عام 1816بين سردينيا وسويسرا المادة 12منها, ونصت أيضاً معاهدة برلين سنة 1878 على إلزام كل من بلغاريا ومونتينيجرو وصربيا ورومانيا وتركيا باحترام الحريات والحقوق الدينية لمواطني تلك الدول
تجمع مصادر القانون الدولي التي عالجت موضوع الحماية الدولية, أن الاهتمام والأهمية التي حازت عليها مسألة حقوق الأنسان قد وصلت بها إلى مصاف المواضيع الرئيسة المطروحة في الوقت الراهن . فبإمكاننا أن نقول انه الموضوع رقم واحد في بؤرة الاهتمام الدولي حالياً, إلا أن هذا لم يتحقق بين ليلة وضحاها, بل جاء نتاج سنين طويلة من المعاناة والنضال المرير التي قاستها البشرية ضد الاستبداد حتى أضحت على ماهي عليه ألان, وسيُكرس هذا المطلب في فرعين الأول لدراسة تطور الحماية الدولية لحقوق الإنسان, والثاني للوقوف على أهمية تلك الحماية. اكتسى تطور الحماية الدولية ظاهريتين رئيستين:
الأولى :أن حقوق الإنسان وحرياته قد أصبحت شأن عالمي بعد أن كانت ولمدة طويلة جدا من الاحتكارات المطلقة للدولة التي لا يمكن أن تسمح حتى في التفكير بانتزاعه منها.
الثانية :انتقال الاهتمام بهذه الحقوق والتفكير في حمايتها من مجال المبادئ الأخلاقية والمثالية الفلسفية والأفكار إلى ساحة التطبيق الواقعي, حيث ظهر البحث عن وسائل النزول بهذه المبادئ والأفكار إلى ساحة التطبيق. وللإحاطة بالموضوع سنتناول تطور الرقابة من مرحلة عدم التدخل في الشأن الداخلي لحماية حقوق الإنسان أولا, إلى مرحلة التدخل للحماية ثانياً
أولاً :عدم التدخل:
نشأت الدولة القومية بمفهومها الحديث في اوربا في منتصف القرن السابع عشر – بصورة مملكة – وفي بواكير ولادة هذا الوليد الجديد بدا واضحاً ضرورة حمايته من صور التجمعات الإنسانية الأخرى, وكانت الوسيلة لذلك هي السيادة المطلقة, التي مارسها الحكام التي في معناها الأولي, يعني أن كل حاكم يملك زمام جميع الأمور في مملكته ولا سلطة فوقه, وهذا ما يفسر عدم خضوع الدولة لأي سلطة سياسية عليا.
والسيادة بمعناها المطلق أعلاه ارتبط بمبدأ رفض التدخل, فاطلاق مفردة السيادة تعني عدم السماح بالتدخل في شؤون الدولة من جانب الدول الأخرى أو الهيئات الدولية, أياً كان شكل هذا التدخل, وقد حاول الفقهاء الربط بين مبدأ عدم التدخل ومبدأ مونرو أو ما يسمى تصريح مونرو, والذي يعد الصياغة الأولى الواضحة لسياسة عدم التدخل رسمياً
ظهر مبدأ عدم التدخل أولا في التجمعات الدولية الإقليمية منذ ثلاثينات القرن العشرين, وأولى النظم الدولية التي أخذت به هي النظام الأمريكي, ثم أخذت به مجموعات دولية أخرى مثل, منظمة الدول الأمريكية وحلف شمال الأطلسي, وحلف وارسو وجامعة الدول العربية. إلا أن مبدأ عدم التدخل لم يأخذ ما يستحقه من الاهتمام ألا بعد تشريعه في المادة الثانية الفقرة السابعة من ميثاق الأمم المتحدة والتي قالت:( ليس في هذا الميثاق ما يسوغ للأمم المتحدة أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم الاختصاص الداخلي لدولة ما
مثّل مبدأ عدم التدخل المظهر السلبي للسيادة المطلقة عند بداية نشأته, فللسيادة مظهران, إيجابي وتعني سلطة الدولة العليا في ممارسة اختصاصاتها الداخلية والخارجية بما تمليه عليها مصلحتها, وسلبي وهو استبعاد أي تدخل في دائرة الاختصاص المحجوز للدولة, وهذا الالتزام يلقي على الدول واجب قانوني دولي وهو عدم التدخل في شؤون الغير.
وفي الربع الأخير من القرن العشرين, ومع انهيار الاتحاد السوفيتي, ومع وجود مصادر أخرى للتهديد الدولي لم تمثله الدول بل معطى جديد ظهر وفرض نفسه بقوة على ساحة التغيرات الدولية, متمثل(بالإرهاب) وانتقال النزاعات من ما بين الدول إلى داخل الدولة نفسها, وظهور اليات جديدة في التدخل مثل المحاكم الدولية والمنظمات الدولية, كل هذه الاعتبارات يضاف لها اعتبارات التدخل من اجل حماية حقوق الأنسان,
كلها شكلت ضغوط شديدة على مبدأ عدم التدخل, بالشكل الذي سلبه إطلاقه السابق. كل هذا طرح جملة من التساؤلات لعل أهمها هو تحديد معنى عدم التدخل, و الصعوبة التي تكمن في عدم وجود معيار يفصل بين المسائل التي تعد من النطاق أو الاختصاص المحجوز للدولة وبين ما لا يعد كذلك ويشير بعض الفقهاء إلى معيارين لتحديد ما يدخل في المجال المحجوز للدولة ,الأول معيار الحقوق السيادية أي الحقوق القائمة على الوصف القانوني للسيادة, والتي تباشرها الدولة كاختصاصات متصلة بوجودها كدولة, سواء كان داخل الإقليم أو خارجه.
أما المعيار الثاني فهو معيار وجود التزام دولي, فاذا وجد في رقبة الدولة التزام دولي – بغض النظر عن مصدره- فان الموضوع يخرج من دائرة الاختصاص المحجوز إلى دائرة الاختصاص الدولي, وعليه فمعيار التمييز بين إعمال الاختصاص الداخلي أو الدولي هو عدم وجود أو وجود التزام دولي وبناء على ذلك عندما نظمت فرنسا مسائل الجنسية في أقاليم كانت خاضعة لها بعد الحرب العالمية الأولى – تونس و المغرب – رفضت بريطانيا ذلك, وعرض النزاع على المحكمة الدائمة للعدل الدولية التي تبنت وجهة النظر البريطانية, فجاء في قرارها الصادر بصدد المسألة سنة 1933:((إنه طالما أن مسألة داخلية نظمت باتفاق دولي فأنها تفقد طابعها الوطني وتصبح مسألة دولية
تلا النص على مبدأ عدم التدخل في ميثاق الأمم المتحدة, عدد من الإعلانات التي تحرم التدخل في شؤون الدول, منها قرار الأمم المتحدة سنة1947, الذي يندد بجميع أنواع الدعاية التي تبث من أي دولة وتخل بالسلام, وتؤدي إلى ارتكاب عدوان من أي دولة وتخل بالسلام وتؤدي إلى ارتكاب عدوان, وقرار (السلام عن طريق الأفعال) سنة1950, الذي يشجب تدخل دولة ما في الشؤون الداخلية لدولة أخرى لتغيير حكومتها الشرعية, والاهم هو إعلان الأمم المتحدة رقم 2131لسنة 1965لتحريم التدخل في الشؤون الداخلية وحماية استقلالها وسياستها, والقرار رقم 2225 لسنة 1966 الذي اكد القرار الأول, والإعلان رقم 2625 لسنة 1970, الذي اكد على عدم التدخل وإن ممارسة التدخل لا تشكل خرقا للميثاق وحسب بل وتعرض السلم والأمن الدولي للخطر.
وعلى القرار2131لسنة 1965استند (رينيه كوست) في توضيحه لعدم التدخل واعتبره: ((تدخلاً في شؤون دولة كل تدخل من دولة لفرض إرادتها عليها, سواء كان القصد إنسانياً أم غير إنسانياً أو عن طريق الحرب أو بسبل الضغط الأخرى)), وتماشياً مع ما حل بالعالم من تطورات وخصوصاً في مجال العلاقات الدولية, أصبحت حقوق الأنسان هي قبلة الاهتمام العالمي
وتحقيق رفاهيته وكرامته بقصد التنظيم الدولي, و بدأ شيئاً فشياً يضيق نطاق الاختصاص الداخلي المطلق لصالح الاختصاص الداخلي المقيد بالالتزامات الدولية إلا أن تدخل القانون الدول لحماية حقوق الإنسان لم يكن يستهدف القضاء على سيادة الدول, بل وبحسب كلمة كوفي عنان(من اجل القضاء على الحدود والحواجز المانعة من حماية هذه الحقوق وكفالة احترامها ارتبطت حقوق الإنسان مع السلطان الداخلي للدول, وبدأت حركة دولية تدريجية في الاهتمام بهذه الحقوق, وبهذا الاعتبار تأتي أهمية الحماية الدولية من مقدار أهمية هذه الحقوق إضافة إلى اعتبارات أخرى لا تقل أهمية مما تتمتع به هذه الحقوق من أهمية, وتهديدات انتهاكها للسلم والأمن الدوليين .
مع نهاية النصف الأول من القرن العشرين وبداية النصف الثاني منه, بدأ الاهتمام في اطار العلاقات الدولية ينتقل من الدول وما لها من حقوق وما عليها من التزامات, إلى الإنسان ذاته بالنسبة للحقوق التي يجب أن يتمتع, بها والاهتمام كان يتلاءم وما أفرزته المرحلة السابقة, بحيث شمل الحق في الحياة وحرية الفكر والعقيدة وتحريم التمييز العنصري والتعذيب والاسترقاق والإبادة وحق العمل والتعليم, باعتبار هذه الحقوق كثيراً ما كانت تُغمط من قبل الدول, وحماية حقوق الإنسان من الموضوعات التي نالت اهتمام الباحثين من النواحي الفلسفية, والسياسية, والدولية, مما كان له الأثر على القانون الدولي, فمن الناحية الفلسفية يعد تقرير حقوق الإنسان تحقيقا لفكرة العدل, ومن الناحية السياسية فان الإقرار بوجود حقوق الإنسان يمثل ضمانة أساسية للوصول إلى نظام سياسي يستند إلى أساس شعبي حقيقي, موجود في الواقع وبالتالي تحقيق الديمقراطية,
ومن الناحية الدولية فان إضافة حقوق الإنسان إلى المجالات التي تهتم بها المحافل الدولية, امر يكفل إقامة وتوطيد العلاقات بين الشعوب وصولاً إلى تحقيق اهتمام مشترك بأبعاد المشاكل الدولية, كل هذه النواحي أثرت بشكل مباشر على المفاهيم الأساسية للقانون الدولي
يرتبط مفهوم الحماية الدولية لحقوق الإنسان بتطبيق هذه الحماية على أرض الواقع, ذلك أن الغاية من الحماية التنظير الفلسفي للنظريات الداعية لحماية الحقوق أو للجدل الفقهي, بل إن الغاية الرئيسة من الحماية الدولية ,هو تمكين الأفراد أينما كانوا من التمتع بحقوقهم دون التضييق عليهم من قبل السلطة الحاكمة.
ولعل الحياة الدولية تظهر لنا احتراماً لقواعد القانون الدولي, لكن يجب أن لا نغفل عن أن الظواهر غالباً ما تكون منمقة, خلافا لما هي عليه حقيقة والتقييم الأسلم للأمور يجب أن ينصب أكثر على جوهرها وحقيقتها لا على ظاهرها, فحتى الدول التي تنتهك قواعد القانون الدولي تؤكد غالباً التزامها به, ولكن تختلق تفاسير مغالطة لقواعده لتواري بها سوءة الانتهاكات تلك .
وفي اطار مجتمع دولي أُحادي القطب كما هو شأن المجتمع الدولي الحالي, ومع وجود تفاوت كبير بالقوة العسكرية والاقتصادية لصالح دولة واحدة في عالم اليوم, يسعى الطرف الأقوى دائما إلى استغلال مزايا قوته إلى اقصى إمكانياتها, ومما يؤسف له أن ذلك يتم بطريقة قانونية وان كانت تبريرية .
يضاف إلى ذلك, أن اتفاقيات الحماية الدولية وضعت أو حاولت أن تضع معايير عامة, قابلة للتطبيق في جميع الدول, وهذا ما لا سبيل اليه بشكل كامل لاختلاف النظم الاجتماعية, والثقافية, والقيمية, وربما الدينية, اختلافاً كبيراً بين الدول, مما يعوق إمكانية هذا التطبيق العام, إلا بما يتلاءم مع الاعتبارات أعلاه, وحسب كل دولة على حدة .
وأساساً على ما تقدم, قد تؤدي كل من الظروف الدولية أو الداخلية لعرقلة الحماية, أو لتحجيم دورها أو جعلها شعارات خالية وغير ذات مضمون.
دكتور القانون العام والاقتصاد
وخبير امن المعلومات
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان