شغلت قضية الحفاظ على التراث غير المادي المجتمع الدولي والعربي، واهتمت اليونسكو بهذه القضية بشكل خاص منذ إعلانها عام 2003 لاتفاقية حماية التراث الثقافي غير المادي. إن الآثار ذاكرة الأمة وقلبها النابض، فهي بشقيها المادي والمعنوي جزء لا يتجزأ من التاريخ والتراث الفكري والحضاري بوصفها منبرا لنشر الثقافة والعلم في المجتمع ،
وعنصرا فاعلا في تأصيل الهوية الثقافية ، كما أنها تؤدي دورا مميزا في الكشف عن المعرفة الإنسانية عبر العصور الموغلة في القدم ، وكيفية حصول التدرج في عملية التحضر منذ العصور الغابرة ولحد الوقت الحاضر،
لكن مما يدعو للأسف أن الآثار والتراثين الثقافي والطبيعي مهدد بتدمير وتخريب مستمر سواء أكان هذا التدمير منظماً أو غير منظم، فزوال الآثار والتراث الثقافي يعد خسارة لتراث جميع شعوب العالم، ولا سيما أن بعض الدول والأمم (ومنها العراق) لا تستطيع حماية أثارها ولا تحافظ على تراثها الثقافي نتيجة نقصان الموارد الاقتصادية والعلمية والتقنية لأي بلد أو أمة.
من أجل ذلك كان لابد من وجود جهود للمجتمع الدولي على صيانة وحماية الآثار والحفاظ على التراث الثقافي ، ولعل من أحدى الطرق الكفيلة لمعالجة هذا الأمر وتحقيق التعاون والتفاهم والترابط الثقافي بين الأمم والشعوب ، هو اللجوء إلى بعض المنظمات الدولية التي لها دور في عقد بعض الاتفاقيات والتوصيات الدولية، وإصدار أحكام جديدة على شكل اتفاقيات لإقامة نظام فعال هدفه حماية الآثار وتراث الشعوب، وعلى وفق الطرق العلمية الحديثة .
يشمل التراث الثقافي للشعوب الأصلية المظاهر المادية وغير المادية لأساليب عيشها وآرائها حول العالم وإنجازاتها وإبداعها، وينبغي النظر إليه بأنه تعبير عن حقها في تقرير المصير وعلاقاتها الروحية والحسية بأراضيها وأقاليمها ومواردها. وفي حين يشمل مفهوم التراث الممارسات التقليدية في معناها الأوسع، بما في ذلك اللغة والفنون والموسيقى والرقص والأناشيد والقصص والرياضات والألعاب التقليدية والأماكن المقدسة ومدافن الأجداد،
فإن حفظ التراث بالنسبة للشعوب الأصلية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بحماية الأراضي التقليدية وملازم لها. فمفهوم التراث التقليدي للشعوب الأصلية مفهوم شمولي تتوارثه الأجيال ويستمد جذوره من قيم مادية وروحية مشتركة تتأثر بالطبيعة وهو يشمل أيضاً التراث الثقافي الأحيائي ونُظم إنتاج الغذاء التقليدية كالزراعة الموسمية، ورعي الماشية، ومصائد السمك التقليدية،
وأشكال أخرى لتسخير الموارد الطبيعية يشكل الوصول إلى الأراضي والأقاليم والبيئة واستخدامها عنصرين أساسيين من عناصر التراث الثقافي للعديد من الشعوب الأصلية. والصلة بين الحقوق في الأراضي والتراث الثقافي صلة راسخة في الصكوك القانونية الدولية والفقه القانوني الدولي. وقد سلط العديد من مؤسسات حقوق الإنسان الضوء على أن ملكية الشعوب الأصلية لأراضي أجدادها والسيطرة عليها وإدارتها يشكل عنصراً أساسياً من تراثها الثقافي. وقد دعت اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الدول إلى “احترام حقوق الشعوب الأصلية في ثقافتها وتراثها وصون وتعزيز علاقتها الروحية بأراضي أسلافها والموارد الطبيعية الأخرى التي تمتلكها أو تشغلها أو تستخدمها تقليدياً، والتي لا غنى عنها لحياتها الثقافية
يمكن فهم المعارف التقليدية بأنها مجموعة حية من المعارف التي تم تطويرها وحفظها ونقلها جيلاً بعد جيل ضمن مجتمع محلي تشكل عادةً جزءاً من هويته الثقافية والروحية. وهي تشمل المعارف والدراية والمهارات والإبداعات والممارسات. وتشمل المعارف التقليدية كذلك أشكال التعبير الثقافي التقليدية، بما في ذلك الرقص والأناشيد والحرف اليدوية والتصاميم الفنية والاحتفالات والحكايات وغيرها من أشكال التعبير الفني أو الثقافي. ويمكن لتدابير حماية الملكية الفكرية أن تتيح حماية سبل التداوي التقليدية وحِرَف السكان الأصليين وموسيقاهم من الاستيلاء عليها وأن تمكّن المجتمعات من التحكّم فيها وتحقيق منفعة جماعية من استغلالها التجاري.
لقد اكتسب التراث الثقافي قيمة اقتصادية كبرى باعتباره عصباً لقطاع السياحة، على نحو يؤثر سلباً على حقوق الشعوب الأصلية في كثير من الأحيان. فإدراج المواقع ضمن قائمة التراث العالمي يشكل حافزاً للمسارعة إلى تطويرها سياحياً. غير أن الشعوب الأصلية قلما تستفيد من المشاريع الإنمائية السياحية الواسعة النطاق على أراضيها.
تتأثر شعوب أصلية عديدة بالاستيلاء على تراثها الثقافي. وقد يتخذ هذا الاستيلاء أشكالاً عديدة، منها تحويله إلى سلعة، واستخدام صور الشعوب الأصلية ورموزها لأغراض التسويق والتجارة، والاستيلاء على الأناشيد التقليدية. وقد تضمنت تسوية تم التوصل إليها مؤخراً شرط الاعتراف بالمؤلف الأصلي لرقصة ماوري هاكا (رقصة حرب قبلية) كلما استُخدمت لأغراض عامة أو تجارية
يشكل الحق في الجبر والاسترداد عندما تتعرض حقوق الشعوب الأصلية للانتهاكات عنصراً أساسياً لضمان المصالحة والالتزام بحماية حقوق الشعوب الأصلية في المستقبل. ويتضمن قانون حقوق الإنسان مبدأ قوياً جداً لصالح الاسترداد عندما يثبت حدوث انتهاك. فالإعلان يؤكد أن “على الدول أن توفر سبل انتصاف من خلال آليات فعالة، يمكن أن تشمل الاسترداد، توضع بالاتفاق مع الشعوب الأصلية، فيما يتصل بممتلكاتها الثقافية والفكرية والدينية والروحية التي أُخذت دون موافقتها الحرة والمسبقة والمستنيرة أو على نحو ينتهك قوانينها وتقاليدها وعاداتها
ومن الأمثلة الأخرى على الإحياء الثقافي الاعتراف المتزايد بنُظم إنتاج الغذاء والبذور باعتبارها من التراث الثقافي. ففي غواتيمالا، على سبيل المثال، تعتبر الذرة تراثاً ثقافياً غير مادي بسبب قيمتها التاريخية والثقافية والروحية
وعلى صعيد الممارسات الجيدة، نفذت اللجنة الوطنية لتنمية الشعوب الأصلية في المكسيك، من خلال برنامجها المتعلق بحقوق الشعوب الأصلية، برنامجاً خاصاً بالحقوق الثقافية، يهدف إلى دعم المبادرات المجتمعية الرامية إلى إحياء التراث الثقافي بين الشعوب الأصلية، بما في ذلك اللغات والموسيقى والطب التقليدي. ويشمل البرنامج تقديم التدريب لشباب الشعوب الأصلية بشأن حماية التراث الثقافي.
وقد دعم حتى الآن 505 مبادرات مجتمعية. وثمة عنصر مهم آخر يتعلق بإحياء ثقافات الشعوب الأصلية يتمثل في الاعتراف بنساء الشعوب الأصلية باعتبارهن عناصر فعالة لإحداث التغيير. فقد أثبتت دراسات أجريت مؤخراً أن نساء الشعوب الأصلية يضطلعن بدور هائل في إحياء الرؤية الكونية والتراث الثقافي لشعوبهن ونقلها عبر الأجيال
إن التراث الثقافي للشعوب الأصلية مفهوم شامل تتعاقبه الأجيال ويستند إلى قيم مادية وروحية مشتركة ويتضمن مظاهر مميزة في اللغة، والقيم الروحية، والانتماء، والفنون، والآداب، والمعارف التقليدية، والأعراف، والطقوس، والشعائر، وطرق الإنتاج، والمناسبات الاحتفالية، والموسيقى، والرياضات، والألعاب التقليدية، والسلوك، والعادات، والأدوات، والمأوى، والملبس، والأنشطة الاقتصادية، والأخلاق، ومنظومة القيم، والرؤية الكونية، والقوانين، والأنشطة من قبيل القنص وصيد الأسماك، والصيد بالشراك، وجني الثمار.
ويتألف التراث الثقافي للشعوب الأصلية من جميع الأدوات والمواقع وأصناف النباتات والحيوانات والتقاليد والعادات والممارسات وأشكال التعبير والمعتقدات والمعارف والطبيعة أو طرق استخدامها، التي تناقلتها الأجيال وتعتبر من متعلقات شعب معين أو إقليمه.
ويشمل التراث الثقافي للشعوب الأصلية المظاهر المادية وغير المادية لسبل عيشها وإنجازاتها وإبداعها، وينبغي اعتباره مظهراً ينم عن تقريرها لمصيرها وعن علاقتها الروحية والمادية بأراضيها وأقاليمها ومواردها.
ويشكل الحق في الوصول إلى التراث الثقافي والتمتع به جزءاً من القانون الدولي لحقوق الإنسان ويمثل جانباً هاماً من حقوق الشعوب الأصلية، بما في ذلك حقها في المشاركة في الحياة الثقافية وحقها في التمتع بثقافتها الخاصة بها وحقها في تقرير المصير. وينطوي حق الشعوب الأصلية في تقرير المصير على حقها في الحفاظ على تراثها الثقافي والتحكّم فيه وحمايته وتطويره.
ويقتضي صون ثقافات الشعوب الأصلية وتنميتها حماية أراضي هذه الشعوب وأقاليمها ومواردها. فالحقوق الثقافية تستتبع حقوقاً في الأراضي والموارد الطبيعية، وتنطوي على التزام بحماية التراث الثقافي للشعوب الأصلية من خلال الاعتراف بحقها في امتلاك أراضي أجدادها والتحكّم فيها وإدارتها. وينبغي أن تقوم السياسات والبرامج والأنشطة التي تؤثر في الشعوب الأصلية على الاعتراف الكامل بتلازم التراثين الثقافي والطبيعي، والترابط الجذري بين التراث الثقافي المادي وغير المادي والتراث الطبيعي.
وثمة ترابط لا ينفصم بين القيم الثقافية والطبيعية، بالنسبة للشعوب الأصلية، وينبغي من ثم إدارتها وحمايتها من منظور شمولي. ومن الضروري تفسير جميع الصكوك المنبثقة من هذه الأنظمة والمتعلقة بالتراث الثقافي للشعوب الأصلية في ضوء إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية، الذي يشكل الوثيقة الأكثر تحديداً وتمثيلاً وشمولاً بشأن التراث الثقافي للشعوب الأصلية
وللشعوب الأصلية الحق في الجبر عند الاستيلاء على تراثها الثقافي دون وجه حق، ودون الحصول على موافقتها الحرة والمسبقة والمستنيرة. ويشمل هذا الجبر الحق في الاسترداد والإعادة
دكتور القانون العام والاقتصاد
وخبير امن المعلومات
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان