تقرير يكتبه : عبد المنعم السلموني
كان يوم الخميس 24 فبراير 2022 نقطة تحول في تاريخ العالم، فالهجوم الروسي على أوكرانيا لم يكن مجرد حدث فريد من نوعه، بل سيحدد أيضًا مصير ومستقبل الأمن العالمي. ومن غير شك، فإن البيئة الاستراتيجية والسريعة التطور في منطقة القطب الشمالي ليست محصنة ضد نتائج الصراع المستمر على أوكرانيا. وكما يقول المراقبون، فإنه غالبًا ما يُنظر إلى القطب الشمالي -بشكل خاطئ -على أنه منطقة متماسكة من الناحية الأمنية. مع ذلك، فإن المسار الأمني للقطب الشمالي لا تحركه العلاقات والأحداث الإقليمية التي تقع في القطب الشمالي فحسب، بل يتأثر بشكل أساسي بالتفاعلات الاستراتيجية بين القوى العظمى في أماكن أخرى من العالم.
تدريبات أمريكية كندية .. للرد على أي هجوم بالطائرات وصواريخ كروز
التهديد الروسي يشمل غارات الكوماندوز والغواصات المسلحة نوويًا
ثروات المنطقة .. تسيل لعاب القوى العظمى ..!!
90 مليار برميل من النفط .. و47 تريليون متر مكعب من الغاز الطبيعي!
كميات هائلة من المعادن النادرة .. تبلغ قيمتها تريليون دولار ..!!
في منتصف أبريل، افتتح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اجتماعًا حول تنمية القطب الشمالي، وأثناء الافتتاح، قال إن جميع جوانب الأمن القومي لبلدنا تتركز عمليًا في القطب الشمالي.
أضاف: بالنظر إلى القيود الخارجية المختلفة والضغوط الناجمة عن العقوبات، يجب علينا الآن تكريس اهتمام خاص لجميع المشاريع والخطط المرتبطة بالقطب الشمالي؛ لا يمكن أن يكون هناك تأخير، ولا تأجيل.
لكن لماذا القطب الشمالي؟ وما هي أهميته بالنسبة لروسيا؟
الأهمية الجيوسياسية للقطب الشمالي تجعله أرضًا خصبة للتعاون أو الصراع. ورغم أن مجلس القطب الشمالي حافظ طوال ربع القرن الماضي على مستوى عملي من التعاون، إلا أنه قد تكون هناك عواقب مدمرة للقرار الذي اتخذته سبع من دوله الأعضاء الثمانية بمقاطعة أنشطة المجلس بسبب الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا.
ويشارك في السيادة على منطقة القطب الشمالي ثماني دول هي الولايات المتحدة وروسيا وكندا وأيسلندا وفنلندا والنرويج والسويد والدنمارك، ويضم مجلس القطب الشمالي هذه الدول في عضويته، بالإضافة إلى الصين والهند كمراقبين. وبالطبع، فهذه الدول من الأطراف المهمة في الأزمة الأوكرانية، ومن هنا يأتي التركيز على هذه المنطقة والخلاف حولها. يضاف إلى ذلك ما يحتويه القطب الشمالي من ثروات هائلة وما يمثله من أهمية استراتيجية وجيوسياسية، خصوصًا في ظل التغيرات المناخية وذوبان الجليد.
وذكر تقرير لأتلي ستاليسين على موقع thebarentsobserver.com أن بوتين يعترف بأن تصرفات “الدول غير الصديقة” أدت إلى تعطيل سلاسل النقل والإمداد وأن الدول الأجنبية “لم تعد تفي بالتزاماتها التعاقدية”. وأكد بوتين أن روسيا ستجد حلولًا بديلة تؤدي على المدى الطويل إلى “تعزيز استقلالنا عن المؤثرات الخارجية”.
وشدد بوتين على أنه “في ظل الظروف الحاكمة، يجب أن ننخرط بشكل أكثر فاعلية في تعاون القطب الشمالي مع دول وتحالفات من خارج المنطقة”.
لم يذكر بوتين دولة بعينها، لكن المرجح أنه يضع نصب عينيه الصين والهند، وهما البلدان اللذان يواصلان إقامة علاقات عمل مع موسكو.
تتمتع الصين والهند أيضًا بوضع مراقب في مجلس القطب الشمالي، وقد تسعى روسيا في الجزء المتبقي من رئاستها لمدة عامين في المجلس إلى إشراك البلدين الآسيويين القويين. وتتولى موسكو الرئاسة الدورية لمجلس القطب الشمالي اعتبارًا من مايو 2021.
استثمرت روسيا على مدى السنوات الماضية مبالغ طائلة في إقامة بنية تحتية جديدة لتعزيز إنتاجها من الغاز الطبيعي والنفط والفحم في المنطقة. لكن العقوبات الجديدة تهدد بنسف تلك الخطط.
ومن غير شك، فإن ثروات المنطقة يسيل لها لعاب القوى العظمى. إنجريد بورك فريدمان، زميلة مركز ديفيس للدراسات الروسية والأوروبية الآسيوية بجامعة هارفارد ومسؤولة قنصلية سابقة في سفارة الولايات المتحدة بكازاخستان، تشير في مقال على موقع فورين بوليسي، إلى انه وفقًا للتقديرات، تحتوي المنطقة على حوالي 90 مليار برميل من النفط و 47 تريليون متر مكعب من الغاز الطبيعي، بينما تقدر صحيفة وول ستريت جورنال أن القطب الشمالي قد يحتوي على ما قيمته تريليون دولار من المعادن الأرضية النادرة، والعناصر المعدنية الثمينة ذات الأهمية الحاسمة لمعدات الدفاع الوطني والإلكترونيات الاستهلاكية.
تشمل المصادر الأخرى للثروة المعدنية في المنطقة مخزونات كبيرة من الذهب والبلاتين والقصدير والألماس والزركون والتيتانيوم، حسبما تم استكشافه في دراسة حديثة نُشرت في Ore Geology Reviews.
أمريكا الشمالية
ورغم العزلة وقلة عدد السكان، فإن المساحة الشاسعة من القطب الشمالي الواقعة في أمريكا الشمالية أكبر حجمًا من أوروبا بأكملها. وهي تستحوذ الآن على انتباه الحكومات وخبراء الأمن. ومع تصاعد التوترات، يحذرون من أن منطقة القطب الشمالي في أمريكا الشمالية قد تكون عرضة للخطر.
يردد العديد من كبار مسؤولي وزارة الدفاع الكنديين تحذيرات حول ضرورة الاهتمام بالقطب الشمالي. وقال رئيس أركان الدفاع واين إير للحاضرين في مؤتمر أمني كندي أن أقصى الشمال “مصدر رئيسي للقلق”، مضيفًا أنه “من الممكن أن تتعرض سيادتنا للتحدي”.
وبالمثل، أخبرت وزيرة الدفاع أنيتا أناند وسائل الإعلام الكندية أنها تخطط لزيارة القطب الشمالي وتعمل على خطة إنفاق لتحديث الدفاعات الجوية.
وفي مارس، نظمت قيادة الدفاع الجوي الفضائي الأمريكية الكندية المشتركة تدريبات سنوية في القطب الشمالي الكندي، مع النية المعلنة لاختبار قدرتها على “الرد على الطائرات وصواريخ كروز التي تهدد أمريكا الشمالية”.
يقول الخبراء إن التهديد الروسي للقطب الشمالي يمكن أن يتراوح من غارات الكوماندوز الصغيرة إلى الغواصات المسلحة نوويًا التي تتجول دون أن يتم اكتشافها، وتمثل نارًا تحت الجليد، في القطب الشمالي.
وذكر بيرند ديبوسمان جونيور، في تقرير على بي بي سي دوت كوم، أنه في حال نشوب صراع، سيتعين على الصواريخ الروسية -بما في ذلك الصواريخ النووية -أن تطير عبر القطب الشمالي لضرب أهداف في جنوب كندا أو الولايات المتحدة. أحد هذه الصواريخ، وهو صاروخ كنجال Kinzhal الفرط صوتي -يمكنه السفر بأكثر من خمسة أضعاف سرعة الصوت -تم استخدامه في القتال لأول مرة في أوكرانيا.
قالت كاتارزينا زيسك، خبيرة الشؤون العسكرية الروسية وأمن القطب الشمالي بالمعهد النرويجي للدراسات الدفاعية، إن روسيا قد تعتمد على الأسلحة الدقيقة الطويلة المدى”، مضيفة أن “تقنيات الصواريخ هي أحد المجالات التي تتمتع روسيا بميزة فيها. والتقنيات النووية مجال آخر”.
ويرى مايكل بايرز، الخبير بجامعة بريتيش كولومبيا، إنه بينما تتصاعد التوترات في القطب الشمالي الأوروبي -حيث تواجه روسيا الدول الاسكندنافية -فمن غير المرجح أن تفكر روسيا في أي نوع من التوغل أو التصعيد على طول الحدود الجليدية مع كندا.
الاتحاد الأوروبي
كان للغزو الروسي لأوكرانيا تأثير سلبي بالفعل على التعاون في القطب الشمالي حيث أوقفت سبع دول، هي كندا ومملكة الدنمارك وفنلندا وأيسلندا والنرويج والسويد والولايات المتحدة، مشاركتها في اجتماعات مجلس القطب الشمالي، الذي ترأسه روسيا حاليًا.
ومع استعداد الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه لنقطة تحول تاريخية في علاقاتها بروسيا، يقول الخبراء إنه حان الوقت للتفكير بشكل استراتيجي حول كيفية التعامل مع روسيا في المنطقة. لا يحتاج الاتحاد الأوروبي للتحدث عن أمن القطب الشمالي بشكل عام فحسب، بل يحتاج بشكل أساسي إلى مراعاة المخاوف الأمنية لدول الشمال الأوروبي فيما يتعلق بروسيا والتعامل معها. في النهاية يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى أن يصبح طرفًا فاعلًا للأمن في منطقة القطب الشمالي ولصالحها.
الآن أصبح لزامًا على دول الشمال (والاتحاد الأوروبي) التعامل ليس فقط مع زيادة العسكرة التي تقودها روسيا، ولكن أيضًا الاهتمام الصيني المتزايد في المنطقة، ومنافسة القوة العظمى الأمريكية ذات الصلة.
يقع الأسطول الشمالي الروسي على بعد 100 كيلومتر فقط من بلدة كيركينيس الحدودية النرويجية -وهو أحد الأساطيل الروسية الأربعة التي تضم الغواصات الاستراتيجية والصواريخ الباليستية. وليس من قبيل المصادفة أن روسيا كانت تجري تدريبات عسكرية في بحر البارنتس بينما كانت تكثف نشاطها العسكري على الحدود مع أوكرانيا قبل الغزو. كانت الرسالة واضحة: روسيا تمتلك القدرات والاستعداد للدفاع عن نفسها في مواجهة الولايات المتحدة وحلف الناتو في القطب الشمالي.
لا يكفي اعتماد الاتحاد الأوروبي على قدرات الناتو وقدرات الردع. يجب أن يكون للقارة نفوذها العسكري والأمنيالخاص. هذا لا يستبعد التكامل الوثيق مع الناتو، خاصة إذا قررت فنلندا والسويد في النهاية الانضمام لهذا الحلف العسكري. وبهذه الطريقة، لا يختلف القطب الشمالي عن المسارح الأخرى: إنه ساحة يحتاج فيها الاتحاد الأوروبي إلى التصرف والأمان والاستثمار والشراكة.
على هذا النحو، يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى تغيير جذري في موقفه الإقليمي تجاه روسيا، سواء كان ذلك فيما يتعلق بالاعتماد على الطاقة والكمية الكبيرة من الغاز الطبيعي المستورد القادم من القطب الشمالي الروسي، أو الاعتراف بأن روسيا في القطب الشمالي تشكل تهديدًا أمنيًا لأوروبا.
كانت الدول الأقرب إلى القطب الشمالي قد ردت على الغزو الروسي لأوكرانيا بمقاطعة اجتماعات مجلس القطب الشمالي، وهو المنتدى الحكومي الدولي الوحيد الذي يعالج القضايا المتعلقة بالدائرة القطبية الشمالية.
ويشير تقرير على موقع e-ir.info إلى أن المجلس من مجتمعات السكان الأصليين ووفود ثماني دول تقع حدودها داخل الدائرة القطبية الشمالية، وفي مارس الماضي أعلنت سبع منها -الولايات المتحدة وكندا وأيسلندا وفنلندا والنرويج والسويد والدنمارك -في بيان مشترك أنها لن تشارك في الجولة القادمة من اجتماعات مجلس القطب الشمالي في مايو، المقرر عقدها بمدينة أرخانجيلسك الروسية.
ويؤدي فقدان الجليد البحري في القطب الشمالي، نتيجة لارتفاع درجات حرارة الكوكب إلى خلق عدد كبير من الفرص الاقتصادية الجديدة، ومنها طرق الشحن البحري التي يمكن عبورها حديثًا والموارد التي يمكن الوصول إليها، وتشمل رواسب النفط والغاز وكذلك الاحتياطيات المعدنية لخام الحديد والنحاس والنيكل وفوسفات الزنك والألماس.
من الآثار الأخرى لانخفاض الغطاء الجليدي البحري في القطب الشمالي احتمال عسكرة المنطقة. تاريخياً، منحت المرتفعات الجليدية القطبية الدائمة لروسيا حاجزًا وقائيًا طبيعيًا على طول ساحلها الشمالي، لكن التراجع المستمر للجليد نتيجة للتغيرات المناخية، خلق مخاوف جيوسياسية جديدة لأعضاء المجلس.
وتُظهر صور الأقمار الصناعية من عام 2021 مدى ضخامة الحشد العسكري الروسي في القطب الشمالي، حيث قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتدشين العديد من المطارات الجديدة والقواعد العسكرية والصواريخ النووية البحرية، فهل تتحول المنطقة إلى ساحة للصراع وتنازع النفوذ بين القوى العظمى؟؟