إلى حد ما، كانت هناك وقفة إسلامية محمودة خلال الأسبوع الماضى فى مواجهة الإساءات الهندية لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، فقد اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعى بعدة ” هاشتاجات ” معترضة، ثم تطور الأمر إلى مظاهرات شعبية غاضبة فى عدة ولايات هندية وباكستانية، وخرجت تهديدات من بعض الدول والمنظمات الإسلامية بإجراءات عقابية ضد الهند، وتم استدعاء السفراء الهنود فى عواصم عربية وإسلامية وتسليمهم مذكرات اعتراض ومطالبات بتقديم اعتذار رسمى وعلنى عن الإساءات، والالتزام بعدم تكرارها.
هذه الوقفة لم تستطع حكومة رئيس الوزراء الهندوسى المتعصب ناريندرا مودى أن تتجاهلها، فقد أيقنت أنها تنذر بضربة موجعة، وليست مجرد عبارات إنشائية للاستهلاك المحلى، وأن مصالحها مهددة فعلا، ليس على المستوى الرسمى فقط، وإنما على المستوى الشعبى أيضا، خصوصا بعدما دعا بعض رجال الأعمال فى دول الخليج إلى تسريح العمالة الهندية الكثيفة وإعادتها إلى بلادها.
لذلك سارعت حكومة مودى إلى معاقبة المسئولين عن الإساءات، وأعلنت أنها ” تحترم العقائد الدينية ولا تسعى إلى الصدام مع أتباع الديانات المختلفة “، ورغم أن هذا لا يعد اعتذارا واضحا إلا أنها المرة الأولى التى ينطوى فيها خطاب هذه الحكومةعلى شيء من التواضع والتخلى عن الاستعلاء الذى دأبت عليه عند الحديث فى شأن يخص المسلمين منذ أن اعتلت السلطة عام 2014 .
ولعلنا نذكر أن تلك الحكومة العنصرية كانت إلى ما قبل أزمة الإساءة للرسول الأكرم تطبق استراتيجية ” اليد الغليظة ” فيما يتعلق بالتمييز الدينى ضد المسلمين، والاستهانة بهم، والدعوة الصريحة لتصفيتهم وإقصائهم، لكى تكون الهند خالصة للهندوس وحدهم، وكثيرا ما أعلن مسئولوها أن المسلمين اضطهدوا الهندوس لمئات السنين، وقد حان الوقت للانتقام منهم وإذلالهم وتهجيرهم عقابا على ماحدث فى الماضى، لكن الوقفة الأخيرة فرضت عليهم ـ كما رأينا ـ نوعا ما من الاعتدال، يمكن استثماره والبناء عليه.
والدرس الكبير الذى يجب استخلاصه مما حدث هو أن أمتنا لم تمت كما يروج المبطلون، وأننا قادرون بفضل الله على اتخاذ مواقف جادة ـ إذا أردنا ـ لردع قوى الاستكبار التى لاترتدع إلا بالأفعال، وأن بأيدينا عناصر للقوة يمكننا استخدامها لصالح قضايانا: الموقف الموحد لأمة الإسلام قوة ( 57 دولة)، وسلاح الطاقة قوة ( البترول والغاز)، وسوق الاستهلاك قوة ( حوالى مليار و700 مليون مسلم )، وسوق العمالة الأجنبية قوة ( خاصة فى دول الخليج)، ولو نجحنا فى توظيف هذه العناصر سيكون فى إمكاننا الانتصار لقضايانا والحفاظ على كرامتنا بين الأمم.
وكلمة السر لتحقيق هذا الانتصار هو إحياء روح الأمة الواحدة التى تفككت وتشرذمت إلى شعوب وقبائل متناحرة، وصار لكل قبيلة طريق واتجاه وهوية، ومصالح خاصة لا تعبأ فى سبيلها بمصلحة الأمة الكبيرة، وهذه المصالح المتوهمة قد تأتى على حساب المصلحة العامة للأمة، وقد تصطدم بها، فيخسر الجميع، فى حين أنه بشيء يسير من الفهم والوعى والضمير سندرك كلنا أن مصالحنا متشابكة، لأننا شئنا أم أبينا أمة واحدة، كرامتنا واحدة، وقضايانا واحدة، لن ننتصر إلا إذا انتصرنا معا، ولن ننهض إلا إذا نهضنا معا.
وقضايانا ليست مع الهند وحدها، وليست فى الإساءة للنبى الكريم فحسب، هناك اعتداءات يومية على المسجد الأقصى من جانب العصابات الصهيونية، وهناك هدم منازل المواطنين الفلسطينيين وتخريب زراعاتهم ومصادرة أراضيهم وتهويد القدس، وللأسف تمر هذه الجرائم دون رد فعل مؤثر من جانب الأمة الإسلامية، مع أننا نقدر على اتخاذ رد الفعل المؤثر هذا لو توفر عندنا الحد الأدنى من الشعور بالمسئولية، وتوفرت لدينا الإرادة، وتوفر لدينا الوعى بأن كرامة فلسطين والفلسطينيين هى كرامة أمة الإسلام جميعا.
وهناك جرائم الإسلاموفوبيا فى العديد من دول أوروبا وأمريكا، وقد صارت تقع بشكل ممنهج وفى حماية حكومات معروفة منذ صعود اليمين المتطرف، الذى يعمل بكل جدية لمحو وإقصاء أى رمز إسلامى مهما صغر، بدعوى أن ذلك الرمز يهدد هوية أوروبا المسيحية، مع أن أوروبا لم تعد مسيحية الهوية منذ زمن بعيد، منذ أن ابتعدت عن تعاليم المسيح عليه السلام وراحت تروج للإلحاد والانحلال والشذوذ والكراهية وإقصاء الآخر، وتجتهد فى قهر الشعوب المستضعفة بالسلاح النووى، والسلاح الفيروسى، وسلاح الطعام .
أوروبا الآن علمانية روحا ودما، وفى بلدانها تتعدد الجرائم الموجهة تحديدا ضد الإسلام والمسلمين، مابين الإساءة لنبيهم وحرق قرآنهم، والاعتداء على مساجدهم ومقابرهم، وشيطنة دينهم فى وسائل الإعلام ليكون مرادفا للإرهاب، فضلا عن محاولات طمس هوية المسلمين، والقضاء على خصوصيتهم الدينية والثقافية بدعوى المحافظة على هوية الدولة ونظامها العام، والتنكر فى سبيل ذلك لكل شعارات احترام التعدد والتنوع وقبول الآخر.
صارت معظم دول أوروبا تحارب الإسلام تحت شعار محاربة الإرهاب، تحظر الحجاب وتغلق مدارس المسلمين، وتسلبهم حقهم فى أن يعيشوا وفق شريعتهم وتقاليد دينهم، وتحرض عليهم، وترخى لمتطرفيها العنان للاستهزاء بمقدسات الإسلام باسم حرية التعبير، وهى مطمئنة إلى أن رد الفعل سيأتى ـ إن جاء ـ ضعيفا هزيلا متناثرا، لايتجاوز المناشدات والعبارات الخالية من المضمون، والسبب فى ذلك هو غياب روح الأمة الواحدة ومفهوم الأمة الواحدة عن مسلمى هذا العصر، رغم المنظمات العديدة التى أنشأوها لتجمع شملهم، ثم أفرغوها من مضمونها، لتصبح هياكل مزيفة للديكور لا أكثر.
وإذا كا مولانا الإمام أبو حامد الغزالى قد دعا قديما إلى إحياء علوم الدين، فواجب الوقت أن نتنادى إلى إحياء روح الأمة، التى أراد الله لها أن تكون أمة واحدة، عزيزة كريمة، لاتحنى الجباه إلا له وحده، جل شأنه.