أتابع بشغف ما يكتبه الزميل منصور أبو العزم فى ” الأهرام ” عن الحياة الثقافية فى اليابان ودول الشرق الأقصى، فقد عاش وعمل فى اليابان لسنوات، واستثمر وقته هناك فى الاطلاع على الجوانب الثقافية والدينية، والتواصل مع المثقفين وقادة الرأى وأساتذة الاجتماع والمهتمين بالشأن العام، سواء من خلال اللقاءات المباشرة أو من خلال الكتب، ثم عاد ليبهرنا بمقالاته، وما تحمل من معلومات نجهلها عن ثقافات هذه الشعوب ومعتقداتها وطريقة حياتها .
والحقيقة أننا مقصرون فيما يتعلق بالاهتمام والتواصل مع ثقافة الشرق الذى ننتمى إليه، بينما وجهنا كل اهتمامنا على مدى القرنين الماضيين إلى الغرب، نقلده وننقل عنه، باعتباره حامل مشعل التقدم والحضارة الحديثة، حتى وصلنا إلى مرحلة الصدام، وأدركنا أن قيمنا الثقافية تتناقض مع كثير من قيمه، وأن علينا أن نقف ونفكر ونرفض هذه القيم المناقضة لنا، وأن نوجه أنظارنا إلى المشرق لنحقق نوعا من التوازن .
كان الشرق بالنسبة لنا عالما مجهولا على مدى قرنين من الزمان أو أكثر، لأننا اكتفينا بالغرب، واختلف مفكرونا بين مدرسة رفاعة رافع الطهطاوى الذى دعا فى كتابه ” تخليص الإبريز فى تلخيص باريز” إلى أن نأخذ من الحضارة الغربية مايفيدنا من منجزات علمية وحضارية، دون أن نقع فى أسرهذه الحضارة بحسنها ورديئها، ومدرسة طه حسين الذى دعا فى كتابه ” مستقبل الثقافة فى مصر ” إلى ضرورة اقتفاء حضارة الغرب بالكامل، والأخذ بخيرها وشرها معا، حتى نلحق بركب التقدم الذى حققوه .
وفى الإجمال تجاهلنا تحذير الطهطاوى، ووقعنا بالكامل فى أسر الثقافة الغربية، حتى كدنا نفقد هويتنا الثقافية العربية، ومنذ حوالى أربعين عاما ظهر كتاب ” ريح الشرق ” للمفكر الراحل الكبير أنور عبدالملك، ليدعو المثقفين العرب إلى التريث فى هيامهم الأعمى بالنمطين الحضاريين اللذين نزلا علينا من الغرب، النمط الأوروبى والنمط الأمريكى، وضرورة الاهتمام بثقافات الشرق الأقصى، والأخذ منها والنقل عنها، وحذرنا هو الآخر من أن نظل أسرى المركزية الثقافية الأوروبية الأمريكية، التى وصفها بأنها ” سراب بقيعة “، والتى كلفتنا ثمنا باهظا من هويتنا الثقافية .
وخلال السنوات الأخيرة ظهر فى جامعاتنا اتجاه نحو دراسة الحضارات والثقافات الشرقية، ونشأت أقسام لتعليم اللغات والآداب والفلسفات الشرقية، الصينية واليابانية والهندية والفارسية تحديدا، ولأننا لانعرف إلا القليل عن هذه الثقافات الشرقية، فقد كان اتجاهنا إليها عن طريق الغربيين وكتاباتهم غير المبرأة عن الهوى، ولذلك مازلنا أسرى لما يقوله الغربيون عن ثقافات الشرق الأقصى، وأشهر مثال على ذلك أن معظم من ترجموا رباعيات الشاعر الفارسى عمر الخيام نقلوها إلى العربية عن نصوص إنجليزية، وما زلنا فى حاجة إلى أنم ننقل عن الشرق مباشرة دون وسيط .
وفى هذا الصدد يقول المترجم الكبير د. محمد عنانى إن عباس العقاد كان رائدا حين أقدم على تأليف كتابه المهم عن الزعيم الصينى ” سان ياتسن .. أبو الصين “، وأن هذا الكتاب كان حدثا فريدا مر مرور الكرام، لكنه ينبهنا إلى أهمية دراسة فلسفات وآداب الشرق القديمة، التى خسرنا بتجاهلها خسرانا مبينا .
ويعترف د. عنانى بأننا تلونا بلون فكرى واحد، وأصبحنا نحاكى الغرب فى التوجه المادى الصريح، دون النظر إلى القيم الزاخرة فى ثقافات الشرق الأقصى، وإلى الآن ليس لدينا مترجمون بالعدد الكافى للقيام بالترجمة عن ثقافات الشرق الأقصى .
ليس من المصلحة، ولا من المنطق، أن ندعو إلى القطيعة مع الغرب، وإغلاق التعامل معه ثقافيا وحضاريا، لكننا ندعو إلى الإفادة منه، واستيعاب منجزه الحضارى، والأخذ منه بما يناسب ثقافتنا العربية، ولا يطغى عليها، وإلى الإفادة أيضا من النماذج الحضارية المتقدمة فى الشرق، لتحقيق نوع من التوازن الذى يحمى خصوصيتنا، وهناك نماذج ثقافية فى الشرق حققت منجزا حضاريا جديرا بالنظر إليه والإفادة منه، مثل الصين واليابان وكوريا، وما النمور الآسيوية منا ببعيد .
وليس يخفى على أحد أن النموذج الثقافى الغربى قد وصل اليوم إلى حالة من الترهل والتدنى، جعلته يتحدى الفطرة الإنسانية السليمة، ويأخذ العالم معه إلى مجاهل قيمية ترتد به إلى ما قبل عصور الوعى والدين والنضج العقلى، وبدلا من أن يحشد قدراته من أجل صيانة الجنس البشرى والارتقاء به إنسانيا واجتماعيا انحرف إلى نشر الشذوذ الجنسى والانحلال الخلقى ودعم التفسخ الأسرى، وتمجيد القوة واستذلال الضعيف واستغلاله، والتنكر للعدالة، وتطبيق معايير مزدوجة، والعودة إلى قانون الغاب .