لدينا مائة سبب لنغضب مما حملته جريمة مقتل طالبة المنصورة على يد زميلها المهووس من دلالات سلبية عن أوضاعنا الاجتماعية ومنظومة القيم التى تقدمها وسائل التربية والتعليم والإعلام والمؤسسات الدينية والثقافية للشباب، لكننا ـ للأسف ـ تغاضينا عن فتح هذه الملفات الخطيرة ودخلنا فى سجالات سطحية، معظمها يرجع إلى حالة الاستقطاب الأيديولوجى التى سقط فيها الجميع، فابتعدنا عن النقطة المحورية الأساسية للمشكلة، ولم نحسن تشخيص المرض حتى نحسن علاجه، وإنما انخرطنا فى سفاهات واتهامات متبادلة، فضاعت منا فرصة ذهبية لإصلاح جزء مهم من أحوالنا المعوجة .
لم تكن جريمة مقتل طالبة المنصورة جرس الإنذار الوحيد، وإنما كانت الجرس الأعلى صوتا وتألما وطلبا للعلاج من المرض، فقد سبقتها وتزامنت معها جرائم وأحداث انتحار وقتل للزملاء وللأبناء، وللأزواج والزوجات، وللآباء والأمهات، وللأجداد والجدات، وكلها جرائم تنفطر لها القلوب وتقشعر منها الأبدان، لكننا اعتدنا على أن نهمل القضايا الرئيسية الواضحة، ونتعارك فى تفريعات هامشية فنجعلها هى الأصل .
كان يجب أن نقتنع جميعا بأن مجتمعنا يعانى مرضا عضالا، بل أمراضا معضلة، وأن نذهب فى كل اتجاه وكل تخصص نلتمس لها العلاج، لكننا لم نفعل، وأغلب الظن أننا لن نفعل فى القريب العاجل، لأن النخبة المنوط بها التشخيص والعلاج مشغولة بالصراع الأيديولوجى، وإثبات انتصارها على الفرق الأخرى بكل وسيلة، كما أن المسئولين عن وسائل التربية والتعليم والإعلام وتشكيل الرأى العام يفتقدون إلى استراتيجية واضحة يعملون من خلالها، ولذلك يأتى أداء هذه الوسائل عشوائيا، ويعطى رسائل متناقضة تثير الفوضى، وتنزع اليقين والثوابت مما هو راسخ فى العقول والضمائر، فتصبح كل القيم هشة، قابلة للشك والطعن فيها.
لقد ساءت أحوالنا الاجتماعية والنفسية جراء كثرة وسائل الإعلام والاتصال من حيث كان ينبغى أن تتحسن، ومن حيث كان يجب أن نجد فى التنوع والتعدد مساحة هائلة لممارسة الحوار البناء والانفتاح العقلى ونشر التسامح وقبول الآخر، وفى لحظة فارقة نستيقظ على الحقيقة الصادمة، فنكتشف أن الرسائل السلبيىة التى تبثها تلك الوسائل للتشكيك الدائم فى الثوابت والاستهتار بالقيم الروحية لم تأت إلا بحصاد مر، نغضب منه ونحزن عليه، لكنه حصادنا الذى نتجرعه ولا نكاد نسيغه .
وفى ثورة الغضب يموج بعضنا فى بعض، ويحتدم الجدل العقيم، ويقدم كل فريق عرائض اتهام ضد الآخرين، وينصب نفسه مدعيا عاما على مخالفيه فى الرأى، بينما الواقع يصرخ ويستنهض الجميع، ولا يبرئ أحدا، ولننظر معا فى بعض نقاط ليست عابرة :
ــ ألم يكن تغييب الخطاب الدينى الرشيد وتهميشه وتسطيحه فى الإعلام ومناهج التعليم سببا مباشرا فى استسلام الشاب القاتل لهوس الحب والغرام، إلى الدرجة التى تدفعه إلى الإصرار على نيل ما ليس من حقه، أو ارتكاب جريمة قتل ؟
ــ أليس فى تركيز الدراما والأغانى على قصص الحب والغرام والهيام وحتمية حصول الحبيب على حبيبته، ولو بالقوة وتحدى القانون والعادات والتقاليد، ” أفلام عادل إمام نموذجا “، سبب رئيسي فى دفع القاتل، وكل قاتل، إلى الاستهانة بروحه وأرواح الآخرين فى سبيل إرضاء غروره وتبرير نزواته ؟
ــ من أفهم أسرة القاتل أن حرية الأبناء تعنى تركهم لأصدقاء السوء يقودونهم إلى الانحراف بكل أنواعه، على نحو ما ذكر القاتل فى اعترافاته، فقد دفعه زملاؤه إلى أن يتعاطى المخدرات ويتعلم كيف يكون عنيفا ليفوز بقلب حبيبته، حتى إن استدعى الأمر أن يضرب ويبتز ويقتل ؟
ــ من أدخل فى عقول شبابنا أن ” الفتوة ابن البلد المجدع ” هو ذاك الذى يغلق الحارة بالسنج والمطاوى والسكاكين، ويهجم على بيت الحبيبة لينتزعها من أهلها ويهرب بها، فقط لأنه يحبها من قلبه، ولا يستطيع العيش بدونها ” دراما محمد رمضان نموذجا ” ؟
ــ من علم الشباب أن الحب يعنى الاستحواذ على من يحب بأى ثمن وبأية طريقة ؟ هل الخطاب الدينى الذكورى هو الذى ردد على أسماعهم ” يانعيش سوا يانموت سوا “، أو أقنعهم بـمقولة ” لن تكونى لى ولا لغيرى ” ؟
ــ فى أى ظرف، وفى أى فضاء، ظهر الخطاب الدينى التسطيحى ” العكاشى الاستظرافى”، الذى يطالب الفتاة بأن تخرج إلى الشارع ” قفه ” حتى تسلم من القتل، ويصور شبابنا بأنهم ذئاب جائعة تعوى فى الشوارع ؟
ــ من المسئول عن حالة اللامبالاة التى ظهرت على وجوه المارة أمام بوابة الجامعة عندما شاهدوا طالبا يطرح زميلته أرضا ويعتدى عليها بمطواة ؟ ومن المسئول عن انعدام الإحساس وفقدان المشاعرالإنسانية لدى من يقيمون عرسا فى المنزل المجاور لمنزل الشهيدة ” نيرة “بعد أيام من وقوع الجريمة دون أية مراعاة لمشاعر الجيران؟ كيف قست قلوب الناس إلى هذا الحد ؟
ــ هل التشكيك الدائم فى السنة المطهرة والتعريض بالقرآن الكريم، وغياب القضايا الكبرى عن محيطنا الثقافى والجامعى، يجعل شبابنا لديه انتماء حقيقى للوطن أو للأسرة أو حتى للجامعة ؟
لعلنا الآن أكثر إدراكا أن مجتمعنا قد تغير بسرعة مذهلة، وفقد الكثير من قوى المناعة التى تحصنه وتحميه، وأن الدكتور جلال أمين كان واعيا وصادقا حين أطلق منذ سنوات صرخته المدوية ” ماذا حدث للمصريين ؟ “، وجعل هذا التساؤل الموجع عنوانا لكتابه، الذى رصد فيه كما هائلا من التحولات الرهيبة التى حدثت فى بلادنا على مستوى القيم والأخلاق والذوق العام .