فى يناير الماضى صدرت الترجمة العربية لكتاب ” كيف سحر القرآن العالم ؟ ” للمستشرقة الألمانية أنجيليكا نويفيرت، قدمها المترجم المتخصص صبحى شعيب، وراجعها الدكتور مازن عكاشة، وأصدرتها دار البحر الأحمر للنشر ضمن سلسلة ترجمات الاستشراق الألمانى، وتتلخص رسالة الكتاب فى أن القرآن الكريم جاء ليشارك فى الحوار الذى كان مشتعلا فى زمن الوحى، وليقول كلمته، فأحدث انقلابا ثوريا هائلا، وألغى مفاهيم، ورفض معايير، وأسس لحياة عقلية جديدة للبشر، قوامها العدل والرحمة، وقدم إجابات خاصة عن الوجود والكون والخلق والخالق والشرائع التى يجب أن تسود لتحقق التوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة ومصلحة العالم الذى تتعايش فيه الأمم المختلفة.
ويمثل الكتاب تحديا كبيرا لعلماء المسلمين فى المنهج والمنهجية والقدرة البحثية والإمكانات، كما يمثل تحديا للقارئ المسلم الذى سيجد فيه كلاما مختلفا عما اعتاد عليه، كما سيجد مراوغات فكرية عليه أن يتدرب على قبولها والتعامل معها بمنطق الحوار والاشتباك، وليس بمنطق القبول أو الرفض.
والمستشرقة أنجيليكا نويفيرت من مواليد 1943، متخصصة فى دراسات العربية والقرآن الكريم، وتجيد العربية والعبرية واللاتينية واليونانية القديمة والإنجليزية والفرنسية، وتعرف الكثيرعن السيريانية والسنسكريتية، وأسست أكبر مركز بحثى عن القرآن فى العالم الغربى، ويعمل فيه تحت إشرافها العديد من الباحثين الشبان، الذين ينتمون إلى أصول مختلفة فى الشرق الأوسط.
ويقف الكتاب شاهدا على مدى عزم هذه السيدة التى قدمت قبله العديد من البحوث عن القرآن والشعر العربى المعاصرعامة، والفلسطينى خاصة، وهى لم تقل قط إنها أسلمت، ولم تهاجم القرآن، ولم تقل إنه ليس وحيا من السماء، كما لم تقل أبدا إنه وحي من السماء، أو أن الكتب السماوية الثلاث وحي من الله، ولم تتحدث عن محمد كنبي إلا مرة واحدة، ولم تقل إن الإسلام هو الدين الأصح، وغاية ما صرحت به أنها تحترم قدسية القرآن عند المسلمين، وأن محمدا مبلغ، وتتحدث عن القرآن باعتباره ” البلاغ “.
فى الفصول الأولى تعرض نويفيرت للأوضاع الدينية والعقائد التى كانت سائدة فى العالم المحيط بالجزيرة العربية، سواء أكانت أديان سماوية أو وضعية، وتشير إلى التقلبات والإضافات التى كانت تحدث فى النصوص المقدسة لهذه الأديان من القرن الثالث إلى الثامن الميلادي، وهى الحقبة التى تسميها ” حقبة التحولات الكبرى فى تاريخ البشرية “، ففيها صيغت أفكار عالمنا الذى نعيش فيه حتى الآن، وتقول إن العالم فى ذلك الزمن كان عبارة عن لوحة موزاييك ضخمة جدا، متنافرة جدا، لاشيء يجمعها، وليس هناك من سلطة لنص يقول بقول فصل، حتى جاء القرآن فأحدث تأثيرا هائلا وأضاف الكثير إلى العقل الإنسانى.
ثم تدلف إلى عالم الجزيرة العربية قبل الإسلام، حيث غلبت مصالح القبيلة على قيمة الفرد، وكانت منظومة الجاه والشجاعة والكرم هى المعادل الموضوعى للفناء المحتوم فى هذه الدنيا، والمجد هو الذى يخلد الذكر، ولهذا علت قيم جمعية مثل المروءة والثأر والحمية،على حساب قيمة الفرد التى تراجعت وتضاءلت، فالفرد غير ذى قيمة، بينما مجد القبيلة هو القيمة الأهم، ومجد القبيلة يقوم على الرجال، بينما تمثل الأنثى تهديدا مباشرا لشرف القبيلة.
وكانت اليهودية موجودة فى المدينة والمسيحية فى مكة، بل وحول الكعبة، وكانت الخلافات بينهما مسموعة الصدى فى أوساط العرب، وكذلك الخلافات داخل كل ديانة منهما، وكان العالم كله فى صراع، صراع بين فارس والروم، وصراع بين العرب والعرب، وبين الأسياد والعبيد، وبين الرجل والمرأة، وكانت النفس الإنسانية تموج بالحيرة والغضب والتساؤل والقلق، قلق اليوم وقلق ما بعد الموت، وأين الجواب وأين المستقر، وجاء القرآن ليشهد شهادته ويقدم إجاباته، وكانت هذه الإجابات هى السحر الذى سحر العالم .
وتستخدم المؤلفة مفهوم ” السحر ” وفق رؤية علم الاجتماع، فالسحر يعنى ” التمثل ” الذى كان وسيلة الإنسان التعبيرية فى العصور البدائية لمحاولة فهم الوجود والكون والخلق، وعلى هذا الفهم تبنى نويفيرت تحليلها للظاهرة القرآنية، وتنتهى إلى أن القرآن كى يمارس دوره فى النقاش السائد زمن الرسالة قام مبدئيا بسحر العالم، أى تمثله، وقدم إجاباته عن الوجود والكون والخلق والخالق عن طريق إقامة وشائج قربى بينه وبين الشخصيات والأماكن الكتابية، مثل الأنبياء السابقين وسيناء ومصر والقدس.
وفى ذلك قام القرآن بعملية ترميز نماذجية، بمعنى اتخاذ شخصية أو مكان فى قصة قديمة ( هنا الكتاب المقدس ) وإقامة علاقة تذكر المؤمنين المعاصرين بأنهم سينجحون أو سينتصرون مثلما نجح الأقدمون، وأنه فى حالات فشل الأقدمين فإن المحدثين سينتصرون لأنهم مدعومون بقوة إلهية، فنظر المسلمون لأنفسهم وهم محاصرون فى شعب أبى طالب نظرة اليهود الحزينة فى السبى البابلى، ونظروا إلى خروجهم من مكة كخروج اليهود من مصر.
وطبقا لرؤية علم الاجتماع فإن القرآن سحر العالم فى البداية، أى تمثل العالم واشتبك معه، فأنصف العبيد، ومنع وأد البنات، وبشر بعالم تسوده العدالة والرحمة، ثم لم ينتظر القرآن أن يحدث إبطال سيء لهذا السحر كما حدث مع غيره من الكتب السابقة، فقام هو نفسه بـ ” فك ” السحر أثناء تنزله فى حياة الرسول، عندما استوى الأمر وانتصر الإسلام، فأخبر بأن الرسول سيموت، وأن قيمة الدين تتمثل فى العدل على الأرض الواقعية، وأن الرحمة مهمة للعالمين، كما لم ينتظر أن تجرى على النص “سنة الأولين ” فيحدث فيه تعديل وتحوير وتبديل، بل نفذ كل هذا أثناء حياة ” المبلغ ” .
هذا كتاب مهم، جدير بالقراءة، كى نعرف كيف ينظر العالم إلى القرآن الكريم، وكيف يدرسونه وفق مناهج علمية جديدة علينا .