ثمة من يبقى، فى الوقت الذى تبنى فيه نجيب محفوظ الحارة القاهرية بحركتها الوطنية وعوالمها الاجتماعية الظاهرة والخفية، مقاهيها وشخوصها بأفراحهم وأحزانهم، انتصاراتهم وانكساراتهم، أبحر بهاء طاهر بسفينته فاتحا الستار عن عوالم من نسيج اجتماعى مغاير، استعرض تحولات الواقع وتبدلاته من خلال أصوات تأتى من سرّة الصعيد المصرى، بحس رهيف قدم سمفونيته الرائعه «خالتى صفيه والدير»، من خلال بناء درامى وهارمونى سردى جميل، سلط الضوء على ما يمكن أن تتسبب فيه قسوة المجتمع من تحولات خطيرة فى سيكلوجية الإنسان وانحراف سلوكه، وضّح الانقلابات المحيرة للمشاعر الإنسانية من أقصى إلى أقصى.
نجد الخيّر يتحول إلى شرير والحب يتحول إلى كره دون الاعتراف بمنطقة وسطى، دراما ارتبطت فيها مشاعرنا البكر بقصة صفية وحربى، وكيف كنا نتكوم أمام التليفزيزن كل مساء لنشاهد حلقات المسلسل، نتنافس على من سيجلس أقرب إلى الشاشة الصغيرة، لعل قربه يمكنه من أن يغير مجرى الأحداث فيهمس فى أذن حربى بحب صفية.
من ثم أدهشنى ربان القلم بكشف جديد، بحرفية وحنكة كشف الغطاء عن مشهد آخر رصد فيه ما يزيد على ربع قرن من تاريخنا الحديث، بدءا من تراجديا انهيار الناصرية مارا بحقبة السادات وحتى بداية التسعينات الذى ختم بها «الحب فى المنفى»، من خلال سرد إنسانى واقعى حى، تناول فيه أزمة اغتراب ذلك الجيل الذى ضاع بين إيمانه بحلم الوحدة وسياسات السادات، بين الانتفاضة والسلام، بين طوباوية الشعارات ونرجسية الواقع، فكانت قصة طلاق منار وفشل إبراهيم فى الحب والارتباط، تحليلا ثريا للعلاقات الاجتماعية والعاطفية المفككة، كانت هناك شادية التى تشبه الكثيرات من المصريات اللاتى تسحقهن الحياة إلى يومنا هذا تحت مظلة الزواج، تسلبهن مواهبهن وأحلامهن بدعوى الحفاظ على مصلحة الأولاد والأسرة التى لا يضحى فيها أحد بشىء غير المرأة.
قدم بعمق التحولات التى تحدث للإنسان على مر الزمن حيث تنهار المبادئ وتتبدل القناعات وتصاب النفس والعلاقات بالركاكة والتحلل، وعبر سياق متجانس استعرض العديد من القضايا العربية الكبرى من خلال بناء درامى مميز ولغة عذبة، وما إن انتهيت من النص حتى شهقت وهمست فى نفس متقطع بجملة ما زال صداها يتردد فى ردهات ذاكرتى «هكذا يُكتب تاريخ الأمم».
بينما فى «واحة الغروب» خرج بنا طاهر إلى عوالم مكانية وزمانية ثرية فأخذنا عبر مغامرة ساحرة إلى منطقة آسرة وبسيطة، غنية بالتراث والحضارة، خالية من إلهاءات المدينة، مكان وجد فيه الضابط المهزوم نفسه خائبا منبوذا أمام الوجود الواسع للفراغ والوحدة، مما جعله أكثر تعقيدا وحدة مع نفسه، وضعه أمام ذاته حيث يعلو صوت ضميره.
فيظهر الأنا الأعلى جلادًا لا يتوانى عن تعذيبه وإيلامه على وجوده فى تلك المنطقة الضبابية بين الأنصاف عندما كان الجدير به أن يقف فى الجانب الصحيح، وعبر زخم من الأصوات لشخصيات النص الثرية التى صنع الكاتب فيها عجينته ببراعة ونحتها بحرفية ليقدم للعالم هذه اللوحة اللافتة، عرض برشاقة العوالم النفسية الخفية لكل منها، فكما كان هناك محمود بشخصيته المضطربة وعذاباته المخيفة كانت هناك كاثرين بتصالحها التام مع نفسها وتكيف ضميرها مع أفعالها مهما كانت، ومثلما كان هناك الشيخ كانت القديسة.
ومن التحولات العنيفة وأزمة الاغتراب لشخوص طاهر الروائية حيث العمر أطول بكثير من أن يبقى شىء على حاله، هذه الحكمة التى أدركها الكاتب ورصدها منذ وقت مبكر فى العديد من نصوصه، وربما هى سمة أساسية فى كتاباته، قناعة ما أثبت له الزمن صدقها إلى بهاء طاهر الإنسان.
وفى لحظة تأمل بين أزمة القرب والبعد بين البشر بعضهم بعض «ثمة ما/ من يبقى»، هناك دائما ما يستحق فرصة ثانية، لحظة صدق كتلك التى أغلق فيها صحفى المنفى على نفسه باب غرفته وأجهش فى البكاء وهو يقرأ وثيقة الطلاق التى فرقت بينه وبين منار إلى الأبد، خيط ذكريات رفيع تفوح رائحته كنسيم الربيع فى فضاءات النفس فيرسم ابتسامة أو يسقط دمعة. وكما قال حكاؤنا الحكيم بهاء طاهر «ربما بطريقة ما، بمعجزة ما ستورق من جديد تلك الشجرة التى سقطت فى الأرض وماتت»