كان الزمان مساء من أمسيات صيف 1983 ، وها أنا أجدنى جالسا على قهوة فى الكيت كات ومعى صديقى القصاص إبراهيم أصلان ، والقصاص يوسف أبو رية رحمهما الله ، كان أصلان شديد القلق شديد الحيرة فقد صدرت له منذ أسابيع رواية مالك الحزين ، لكن إستقبال النقاد والمثقفين لها كان فاترا ، ظن اصلان أن روايته التى كتبها فى عشر سنوات لم تلق قبولا ، أو أنه قد أخطأ فى حق تاريخه الأدبى بنشرها ، سالته عن رأى عم عبد الفتاح الجمل فى الرواية ، فأجابنى إنه قال له ” كويسه – فى القراءة الأولى ” قلت يكفيك رأى عم عبد الفتاح فهو شيخ النقاد وإمام المتذوقين ، قال أصلان إنه سوف يكتب رواية أخرى فى ظرف 15 يوم كى يمتص صدمة ضعف رواية مالك الحزين .
كان أصلان يشرق ويغرب ، ويشرد ويحضر بذهنه فى ذاك المساء البعيد ، وفى أثناء الحديث قال لى إنه باع الرواية للسينما ، وأن المخرج داوود عبد السيد قد دفع له 400 جنيه ، وأشار الى سيارته الفولكس التى كانت ترقد أمام القهوة قائلا ” عملت بيهم عمرة للفولكس ” فتعجبت ، لأن الرواية عبارة عن لوحات متداخلة ، وأكثرها فلاش باك ، وقلت : ومن سيقوم ببطولة الرواية ، قال : محمود عبد العزيز : فزاد عجبى لأنه لا توجد شخصية رئيسية فى الرواية تناسب الفتى الوسيم محمود عبد العزيز ، كما أن الخط الروائى شديد التعرج عظيم الإنكسارات ، والمكان الذى هو حى الكيت كات يكاد يكون هو الثابت الوحيد فى الرواية ، لكنى لم أتوقف عند هذا الخبر متشككا حتى لا أحرج أصلان .
فى السنوات التى تلت هذه الأمسية كنت كلما تذكرت حكاية الفيلم أقول لنفسى ، المهم أن أصلان أصلح سيارته ، أمّا فيلم سينمائى ، ومحمود عبد العزيز فذلك مستحيل ، لأن السينما تحتاح روايات مسطحة ، وشخصيات متماسكة على إمتداد الرواية ، ومالك الحزين هى كتابة مختلفة معجونة بعرق البشر العاديين وهزائمهم اليومية . وتمسكهم المعجز بالحياة . لكن فى عام 1991 فاجأنى داوود عبد السيد بفيلمه الرائع الكيت كات من بطولة محمود عبد العزيز ، الذين أخذ شخصية الشيخ حسنى التى تحتل بضعة أسطر فى رواية مالك الحزين ، فهو سليط اللسان ، وفى أحد المرات أطلق لسانه فاضحا أهل الحى أمام الميكرفون ” وتلك واقعة حقيقية كما أكد لى أصلان ” ويبدو أن الشخصية والواقعة قد بهرتا داوود عبد السيد فأخذها وبنى عليها بناء دراميا شديد الروعة ، لقد طمس الزمان نظر الشيخ حسنى المقيم فى حى الكيت كات ، لكن إرادة التحدى داخل الرجل جعلت منه أكثر المبصرين ، فهو يتتبع أخبار الناس ويقتحم معهم صراع الملكية رافضا العاهة التى أصابته ، لقد برع عبد السيد فى إبراز صراع الملكية الذى يحكم سلوك وتصرفات الناس ، وأضاء لنا المشاهد من خلال شخصية عبثية ساخرة أجاد محمود عبد العزيز فى تأديتها . من يومها وأنا شديد النعلق بمحمود عبد العزيز ، لقد منحه الكاتب والمخرج الرائع أبدا داوود عبد السيد دور عمره فتفوق على آلبتشينو الذى قام بدور الكفيف فى الفيلم الرائع عبير إمرأة .
لم أكن أعرف أن محمود عبد العزيز الوسيم يملك كل هذه الرحابة المصرية ، ولا كل هذا الإبداع الذى تمدد أمامنا فى شخصية الشيخ حسنى . أمّا رواية مالك الحزين فلقد إعتبرها النقاد من أهم 100 رواية عربية ، أمّا الفيلم فقد صار من أهم 100 فيلم عربى ، أمّا أصلان فقد رحل ، وكذلك يوسف أبو رية رفيق تلك الجلسة الحائرة فى ذلك المساء البعيد .