أرسل لي أحد الشباب بعض المشاهد من أفلام مصرية عُرضت في السنوات الأخيرة يستخدم فيه الممثلون ألفاظا بالغة البذاءة بمعايير العُرف والتقاليد الاجتماعية والذوق السائد، وقد تعجبت كيف وافقت الرقابة على ذلك؟ لكن الشاب مضى يسألني: (ما رأيك؟ إن تلك الألفاظ نسمعها يوميًا في الشارع، وبالتالي يجوز استخدامها في عمل فني، حتى يصبح معبّرًا أصدق تعبير عن الواقع الغليظ الذي نعيشه).
الحق أن مفهوم العلاقة بين الفن والواقع يعتريه تشويش كبير، إذ يزعم بعضهم أن الفن، خاصة السينما والدراما، ينبغي أن يكون (مرآة دقيقة) لكل ما يجري في حياتنا اليومية، بمعنى أن ما يقوله بعض الناس وما يتفوهون به من ألفاظ خشنة وعبارات فاحشة في أحاديثهم اليومية يجب أن تنتقل من الشارع إلى الشاشة كما هي بخشونتها وفحشها، حتى يغدو العمل الفني (صادقًا).
من أسف، لا يدرك أصحاب هذا الزعم أن الإنسان (اخترع) الفن منذ آلاف السنين، أي فن، ليترفع ويسمو ويسعد ويستمتع، والبذاءة في خصام دائم مع الرفعة والسمو والمتعة، فالفن لعبة جميلة يمارسها الإنسان ليبتهج ويفرح ويتجاوز الشقاء اليومي الذي يكابده. الفن إعادة صياغة للواقع. الفن محاولة مستمرة للرقي بهذا الواقع والتخفف من حمولاته التعسة. الفن رغبة جارفة لاكتشاف الجمال المخبوء في حياتنا اليومية وإبرازه والحفاوة به. الفن ممارسة دائبة وفق قوانين وقواعد تتطور من جيل إلى جيل بهدف التحرر من أسر الغرائز العنيفة التي تمسك بخناق الإنسان.
إن الفيلم السينمائي مدته لا تزيد عن ساعتين فقط على الشاشة، بينما أحداثه قد تتجاوز عشرات السنين، فهل هذا (مرآة للواقع؟)، هنا يكمن سحر الفن وعظمته. إنه تكثيف شديد للواقع وفق منطق معين ورؤية محددة، بهدف تحقيق المتعة والفائدة للمشاهد أو المتلقي.
في كتابه (ضرورة الفن) يشير الكاتب الألماني أرنست فيشر إلى صيحة الشاعر الفرنسي جان كوكتو (الشعر ضرورة، وآهٍ لو أعرف لماذا؟)، مؤكدًا أن الإنسان (اخترع) الفن ليحقق التوازن في الحياة، لأننا نعيش في عالم غير متوازن… عالم مختل… عالم مضطرب! والفن هو الذي يسعى لإحداث قدر من التوازن حتى لا ينتاب الإنسان الجنون!.
أما الفنان التشكيلي الرائد حسين بيكار، فكان يقول لي: (يا ناصر… أنا أرسم الشخوص، رجالا ونساء، في أجمل صورة: الملامح رائقة… الأجساد رشيقة… الثياب مكوية… الألوان طازجة… لأن “تجميل” الحياة أحد الوظائف المهمة للفن، فلا يجوز أن نعرض “القبح” في اللوحات)!.
من حسن الطالع أن لهجتنا المصرية تحتشد بمفرادت لا حصر لها لتعبر عن كل شيء بعبارات راقية: المشاعر والأحاسيس والأفكار والآراء والأحلام والآلام والغضب والغيظ إلى آخره، فلماذا نلجأ إلى الفحش في القول عندما نصنع السينما أو الدراما؟ ولماذا نستخدم المفردات البذيئة؟.
هل تذكرون افلام المخرج العظيم صلاح أبوسيف؟ لقد قدم لنا الأجواء الشعبية في البيئة المصرية في أفلام كثيرة، ولم يستخدم كلمة بذيئة واحدة، لكنه (عكس) بذكاء أحوال البسطاء والمهمشين والجهلاء وأصحاب الثقافة المحدودة واللغة الخشنة، فلم يجرح أذان المشاهد بعبارات فاحشة يستحي أن يقولها المدرس في المدرسة أو الأب في بيته أو المسؤول لمرؤوسيه! ومع ذلك، فقد حققت أفلامه، ومازالت المتعة المنشودة من كل عمل فني جميل.
أرجو ألا تظن أنني أدعو بذلك إلى تزييف الواقع، أو خداع المشاهد، بل أطالب بأن نغوص في هذا الواقع ونعصره ونفضح بؤسه وظلمه واختلاله ومن المتسبب في هذا الظلم وذاك الاختلال، ولكن بلغة ذكية راقية تتواءم مع التقاليد المرعية، ولا تعتدي عليها مجانًا، إذ إن الفن الحقيقي هو القادر على إمتاع أكثر من جيل، فهل ستسعد الأجيال القادمة بالبذاءة التي يتقزز منها معظم أبناء هذا الجيل؟.
رجاءً… لا تلوثوا مفهوم الفن بزعم (الواقعية)!..