ياه! همه الناس بقوا كده ولا هيه دي الحياة؟!
وبعد.. فما أسطره اليوم ليس نقدا تشكيليا، ولا تحليلا فنيا، رغم أنها كانت الليلة الأروع في ليالي الفن التشكيلي العربي! والذي حدث أنني فور أن دخلت جاليري (ضي) الزمالك، برفقة أخي الأكبر، عدت بذاكرتي إلى وقت قريب وليس بعيدا، عندما كان مقر الجاليري منزلاً رائعًا لأخي الأصغر، قبل أن يحوله لأجمل وأضخم الأماكن الفنية في مصر، ثم إنني وفور أن دخلت لمحت وجه شقيقتي الصغرى، قبل أن تأتي ابنة أخي الرقيقة جهاد، متخلية عن مهمتها لدقائق في تلك الليلة الرائعة، لتسألني عن الطبق الذي تعده لي، وقبل أن يهل الدكتور محمد هشام. هكذا ساد دفء الألفة من أول لحظة، في طوابق الأتيليه الثلاثة، حيث اكتظت الغرف والردهات بمئات الفنانين والصحفيين والمحبين للفن التشكيلي بأنواعه المختلفة، إنها نفس الغرف التي أكلت فيها من يد زوجة أخي، وهي تحدثني عن خضروات وفواكه الزمالك، مقارنة بالتجمع الخامس.
ولأنه دفء الألفة، لا دفء الزحام فقد انتشر في كل ركن من أركان الجاليري بما فيه الحديقة الواسعة التي جلس فيها البعض ليستريح، والبعض الآخر للتأمل، وأنا أمضي وفي رأسي ذكريات طريفة عن شجرة المانجو، وأخرى عن أشجار الحنين، ومشاغباتنا لضي، وسماعنا لمغامرات أسامة.
وسط هذا الجو، لم أنشغل كثيرا بإبداعات الفنانين العظام، أو هكذا تصنعت! بقدر ما انشغلت بتعبيرات وجوههم من جهة، والوجوه التي رسموها أو نحتوها من كل الجهات! في الردهة الأمامية، كان وجه الفنان العالمي سيد عبده سليم يغوص في معطفي، محتضنا بحب يماثل حبي له على المستويين الشخصي والفني، والحق أن فرحي بعبده سليم هو فرحي بعبقرية مصر! و كان وجه الفنان القدير عزالدين نجيب يتهلل بشرًا ورضًا وهو يتابع حصاد كده طيلة سنوات عمره، مناضلاً فذًا ومعلمًا رائعًا، ومدافعًا صلبًا عن قيم الحق والخير والجمال.. وقبل أن أسأل عن العلامة الدكتور أحمد نوار، كانت تحفته المعلقة، تشير لي أن اطمئن، هو بخير، مادام النيل يجري، ومادام الحس الوطني لدي محبيه وتلاميذه مشتعلا! وكانت رائعة عصمت داوستاشي ترطب الروح التواقة لرؤيته، وتحفزني للاتصال براعي التشكيل العربي طلال زاهد لطمأنته!
تحركت صوب الداخل، فخطفتني وجوه عبد الغفار شديد المحببة، ومحمود أبو العزم الأليفة، وجمال هلال الهادئة، ومحمود حامد المحفورة على جدار الزمن.. وكانت وجوه مصطفى عيسى هائمة، وزكريا أحمد مستغرقة، وعزة مصطفى جريئة، وأميرة مناح معبرة، وشلبية ابراهيم شلبية بالفعل، وايمان أسامة ناطقة، وكانت وجوه سالي الزيني خارجة لتوها من حي السكاكيني!
دلفت إلى قاعة أخرى اشتعل فيها الوجدان، حيث جذبتني روائع مصطفى يحيي، وعبد الله إدريس، وأسماء الدسوقي، ورضا عبد الرحمن.. وكانت سماء يحيي وشقيقتها الأديبة تمضيان وكأنهما توزعان الألفة وتشيران لي بالتحرك أكثر.. هنا في القاعة التالية روائع منى عليوة، ونازلي مدكور، ومنى غريب، وجمال مخيمر، وسمير عبد الفضيل، ووجيه وهبة، وهشام نوار، والصديق الصومالي الأصيل عبد العزيز بوبي.
أمضي فتناديني مجاميع رائعة وكأنها اصطفت للتعريف بجمال مصر.. هنا مجموعة هاني رزق الشعبية المدهشة، ومجموعة ابراهيم فليس السهلة والممتنعة، وأحمد سليم الرائعة، وإيمان عبده المبحرة، وجرجس لطفي المتأملة، وعاطف الشافعي المتجذرة، وعاصم عبد الفتاح المغناة.. وقبل أن أغادر تخايلني وجوه أيمن السمرى المدهشة، وهند الفلافلي الشجية، ووليد عبيد الحميمية، وأحمد عبد الفتاح الصابرة، وايناس الصديق المشاغبة، وعاطف أحمد الأنيقة!
في غرفة عربية أخرى، كانت نوافذ الصديق الوفي النبيل عبدالله حماس تطل على روعة الفن السعودي الأصيل، ووجوه السوداني الجميل عمر صبير تتحدث عن نفسها وعن النيل، وكانت جماليات عوض أبو صلاح فرحة بالقاهرة، وكانت رائحة الأرض العراقية تفوح من لوحة عماد منصور، فيما رائعة الأردني الجميل حكيم جماعين مضمخة بالبخور، وكانت الروح القطرية العربية تطل بغبطة من نوافذ يوسف أحمد.
أصعد لطابق آخر، فتدحرجني خيول علاء أبو الحمد ومرفت شاذلي، وتطربني طيور كمال السماك، على أشجار الرائع عبد الوهاب عبد المحسن، والحالم اسامة ناشد.. أتأمل في كتابات سمير عبد الفضيل، وكائنات محمد الجنوبي، ومحمود عبد الغفور، وابداعات أمل نصر، وأحلام فكري، وألوذ ببيوت محمد عبلة، ومحمد الناصر، وأهيم في وجدانيات محمد تهامي وعصام كمال.. فتحلق بي من جديد طواويس المتفرد أحمد عبدالكريم، لتنقلني إلى شجن علي سعيد، وانسجام عمر عبد الظاهر، وفرعونية فارس أحمد، قبل أن تطوحني من جديد روائع أماني موسى ورضا شحاته، ومحمد عيد، وفيصل السمرة، وكمال عبده، ومحمد كمال عبد الهادي، سعيد العبد، ومحمد الصبان!
أتوقف في صمت أمام منحوتات عمر طوسون، وعماد أغا، وطارق الكومي، ومحمد العلاوي، ومحمد أبو النجا، ومحمد إسحق، وهاني السيد، ومحمد مندور، أحاول المرور من قلب تحفة طارق زبادي المدهشة،فتطربني إيقاعات عادل بيومي، وعاصم عبد الفتاح، قبل أن يفاجئني الصديق شمس القرنفلي بروائعه المصرية الصميمة.
أحملق في رائعة صلاح المليجي المسجاة على أرض الفن العميق، وأطالع في وجه فتاة خارجة من تحفة شاليمار شربتلي الجميلة، وكأنها تسألني، فتخرج من صدري آه! واردد رائعة صلاح جاهين.. ياه! بصيت في وشوش الناس قلت ياه .. هما الناس بقوا كده، ولا هيه دي الحياة! فيما تقف رائعة صلاح حماد بشموخ وانتباه.. أفرح برائعة طارق زبادي المدهشة، وجماليات عادل ثروت المنعشة فتشير لي رائعة طارق الشيخ المسندة على جدار العمر، إلى تحفة عبادة الزهيري فأفرح مرتين!
عدت إلى حديقة الجاليري للاستراحة، وما أجملها من استراحة وراحة وحب وأنا ألتقي الفنان الرائع مصطفي بط وجها لوجه، فيما يتأمل الجالسون من هذا العناق والصياح الناتج عن فرحة تلميذ وأستاذ لم يلتقيا منذ ثلاثة عقود.. وحين كان الفنان الحبيب يستئذن للسفر إلى شبين الكوم، كان عبير الذكريات يقفز إلى الذهن ويسيطر على الوجدان.
على حافة حوض للزهور، وقفت زهرة جميلة تشير لي بيدها طالبة التقاط صورة معي! اقتربت منها فقدمتها لي والدتها الدكتورة اسماء الدسوقي.. هذه هي حبيبة عماد عبد الوهاب ابنة الفنان القدير ذات السنوات التسع والتي حصدت جائزة الدولة للمبدع الصغير، عن تسعة أعمال استخدمت فيها الأقلام الخشب والأكريلك والألوان المائية على ورق القطن المقوى. قلت للمبدعة الصغيرة التي فازت في سن السادسة بجائزة بينالي الطفل الدولي، يقينا لو أنني أعرف أنك حبيبة، لكنت بحثت عنك لالتقاط صورة لي معك! راحت حبيبة تريني في صفحتها أجمل أعمالها وكلها بالطبع جميلة، وكنت أزداد زهوا ببلادي الحبيبة.
عندما هممت بمغادرة المكان، تصدى لي زميلي الحبيب محمد حربي، وهو يهددني إذا لم أعد أدراجي لابحث عن ثالثنا الأعز! وبالفعل امتثلت!.. كان سامي البلشي محاطا بكاميرا القنوات التلفزيونية، وحين لمحني، فر من أمام المذيعة الرقيقة، متجاوزا الأسلاك الممتدة على الأرض، وكان العناق حد البكاء.. ومضيت!