قبل خمسين عاماً :
كان في حوزتي من بساتينهم الفيحاء ثلاثُ زهرات إِنسيّة وزهرةٌ واحدةٌ برّية ، وهٰذه الزهور الأربعة ـ رغم جفافها بين صفحات كُتبي الآن ـ تضوعُ بعَبق أريجها القديم ، وتهبُّ علىٰ وجهي بنسيم الذكريات الغائبة ، وتغسلُ رئتَيَّ ـ من أدرانِ الواقع الراكد ـ بشذىٰ عبيرها العتيق ، رغمَ تبخّر الأحلام والأيام في مواكب الأزمنة والسنين!
زهور بساتينهم الغنّاء تلك ، هي هي التي كنتُ تشمّمتُها بنهمٍ في سنوات اليفاعة ومَيْعة الصبا والشباب ، وأحببت مالكِيها الشعراء الكبار ، وصحبتُ اثنين منهما رَدحاً من الزمن - محمد الجيار وصالح جودت ـ في بداية نزوحي إلى القاهرة طلباً للعلم في كلية دارالعلوم ، فيا لَحوادث الأيام!
(صالح جودت ١٩١٢م ـ ١٩٧٦َم)
القائل :
(لا تلوميني لأفكاري الجريئه
أول القصة في الأرض خطيئه
لا أبونا آدمٌ عفَّ ولا
أُمّنا كانت من الذنبِ بريئه)
(م. ع. الهمشري ١٩٠٨م – ١٩٣٨م)
ابن قرية نَوَسَا البحر، القائل :
( ادفنوهُ في هدوءٍ وسكونْ
غير أنّاتٍ قلوبٍ وعيونْ
إنه كان قنوعاً راضياً
فادفنوهُ في جناب الخالدينْ)
(محمد الجيار ١٩٢٣م – ١٩٧٥م)
القائل :
( في الليلات الصيفية
كنت ألملم عبرَ خيالي الأضواءْ
جزءاً جزءاً أجمع نفسي
من كل الأشياءْ
وكأنَّ هناك على الشرفاتِ الغيبية
وجهَ امرأةٍ تدعوني : أقبلْ ، أقبلْ
إني أنتظركَ مِن سنوات الغربة)
(محمود حسن إسماعيل ١٩١٠م ـ ١٩٧٧م)
القائل :
(مسافرٌ ، زاده الخيالُ ،
والسحرُ ، والعطرُ ، والظلالُ
ظمآنُ والكأس في يديهِ
والحبُّ ،
والفنُ ، والجمالُ)
فإلىٰ هٰذه الزهور ـ المُجفّفة بين صفحات الكتب منذ نحو خمسين عاماً ـ أعود اليوم علني أستروح بعضاً مِن عبقِ الذكريات ، وطرفاً من مواجيد الكتابة والإبداع :
الزهرة الأولىٰ:
من بستان شاعر الهوىٰ والجمال الذي لا يكلُّ ولا يملّ :
(صالح جودت) :
نزل الستارُ على الروايه
وتبدَّلت تلك الحكايه
لا تسأليني مَن هَوايَ الآنَ
ما لكِ في هَوايَه ؟
يكفيكِ أنكِ لستِ أنتِ
ولم تعد لي فيكِ غايه
فلكلِّ عاطفةٍ مَدىٰ
ولكل عاصفةٍ نهاية
يا مَن جعلتِ الحبَّ تسليةً لقلبكِ ،
أو هِوايه !
إني استشرتُ الحبَّ فيكِ
فقال لي قلبي : كِفايه
لا تسأليني أن أعودَ ،
فأين أرضُكِ مِن سَمَايه ؟
الزهرة الثانية:
من بستان (شاعر الأعراف م. ع. الهمشري)
يناجي حبيبته “توحة” في قريته : “نَوَسَا” :
مِنكِ الجَمالُ وَمِنّي الحُبُّ يا ” نَوَسَا ” (٢)
فَعَلِّلي القَلبَ إِنَّ القَلبَ قَد يَئِسا
يا حَبَّذا نَسمَةُ مِن ” توحةٍ ” خَطَرَت
أَطالَتِ النَفسُ مِن أَسبابِها النَفَسا
إِن تَسمَعي قَرعَ ناقوسٍ بِقَريَتِكُم
في مَطلَعِ الفَجرِ يَنعي اللَيلَ وَالغَلَسا
فَإِنَّهُ قَلبيَ المَنكودُ يَذكُركُم
فَهَل سَمِعتِ بِقلبٍ قَد غَدا جَرَسا
وَإِن تَأَلَّقَ بَرقٌ في سماوَتِكُم
فَإِنَّهُ مِن لَهيبِ القلبِ قَد قَبَسا
الروحُ إِن ظَمِئت يوماً فَحاجَتُها
خَمرٌ سَماوِيَّةٌ فاحَت بِها قُدُسا
وَأَنتِ يا ” توحُ ” رُوحانِيَّةٌ خُلِقَت
لِكَي تُرينا عُلا الجَنّاتِ مُنعَكِسا
هٰذاٰ جمالُكِ يَدعوني لِأَعشَقَهُ
لكِنَّ ثَغرَكِ يا دُنيايَ ما نَبَسا
اللـهُ يَشهَدُ أَنّي حينَ أَذكُركُم
أُديلُ دَمعاً عَلى الخَدَّينِ مُحتَبِسا
عسىٰ نسيم الصّبا يَسري فَيُسعِفُ بي
قَلباً يموتُ حزيناً في الغَرامِ عسىٰ
فَإِن بَعَثتِ لَنا مِن ” توحَةٍ” خَبَراً
فَكَم يحِبُّكِ هٰذا القَلبُ يا نَوَسا
الزهرة الثالثة:
من بستان شاعر التجارب الإنسانية
(محمد الجيار ١٩٢٣م – ١٩٧٥م) (٢) :
مسافرٌ ، لكنما القطارُ لم يجئْ
جعلتُ من حقيبتي وسادةً ونمت.
حلمتُ يا رباه بالربيعِ نائماً
على انكسارةِ الزهورْ
حلمتُ بالمدائنِ البعيدةِ التي
لا تقتلُ الأطفالَ والطيورْ
حلمتُ بالصغارِ دونما بكاءْ
حلمتُ بالطفولة التي
تعودُ حكمةً للأشقياءْ
حلمتُ أنني أسعدتُ
كلَّ مَن جرحتهم بمِعزفي المكسورْ
حلمتُ أنني وجدتُ كلَّ مَن فقدتهم
في رحلةِ الأيامْ
لكنني لما أفقتُ تحت هاطلِ الأمطارْ
قالت رياحُ الليل : فاتك القطارْ !
الزهرة الرابعة:
من أحراج غابة العملاق شاعر التجارب الكونية
(الشاعر البَريّ محمود حسن إسماعيل) (٣) :
اسقياني مِن خمرةِ النسيانِ
وانسياني فقد نسيتُ زماني
ونسِيتُ الأيامَ حتىٰ تلاشت
كهشيمٍ علىٰ ترابِ الزمانِ
ونسيت الجمال حتىٰ كأني
لم أُضمّخْ بنوره أحلامي
ونسيتُ الأكواخَ وهْي قلوبٌ
دامياتٌ تلفّعت بالدُّخَانِ
ونسيتُ القصورَ وهْي قبورٌ
ضاحكاتُ البِلىٰ من البهتانِ
ونسيتُ السلامَ والحربَ ،
سِيّانِ شذى النورِ ، أو لظى البركانِ
ونسيتُ الكلامَ ،
ماذا جنى المُصغي إليهِ ،
سوىٰ بِغاءِ اللسانِ
ونسيتُ النسيانَ والذِّكرَ ،
حتىٰ صرتُ وهماً في خاطرِ النِّسيانِ
الهوىٰ والنشيدُ ـ يرعاهما اللـهُ ـ
بتِيهِ الوجودِ قد ضيّعاني.