أستلمتُ من صديق ناصري مميز من أخوتنا في الجزائر منذ يومين، تهنئة بحدث أنتصار شباب المغرب العربي الرياضي المشرف. ولقد لفت إنتباهي بأنه ومن شدة فرحته أعتبر ان الجماهير العربية في كل مكان أحتفلت بذلك الحدث عبر
“أنفعالات غريزية”.
وهذا ما اريد أن ألفت نظر القارئ الكريم الى عدم صواب هذه التسمية.
فالسلوك الغريزي هو تصرف يُسلك دون وجود خبرة سابقة أي (بدون تعلم).
وبأستطاعتي أن أذكر مئات الأدلة:
فتعبيرا عن عوامل بيولوجية فطرية مثلا، تتحرك السلاحف البحرية التي تفقس حديثا على الشاطئ غريزيا نحو المحيط، كما يصعد الجرابي الى جيب أمة عند ولادته مباشرة.
يتواصل النحل بالرقص في اتجاه مصدر الغذاء دون تعليمات موجّهة، كذلك سلوك التودد عند الحيوانات واستجابات الهروب الذاتية وبناء العشاش الخ.
فالسلوك الغريزي هو أذن ردة فعل لا يتحكم بها العقل بقدر ما تتحكم بها الطبيعة.
فالعقل هو العضو الرئيسي في الجهاز العصبي لدى الأنسان والذي يتحكم في جميع الأنشطة الفيزيولوجية وغيرها وردود الفعل والأستجابة، والوظائف وكل ما يحدث في الجسم.
أما الغريزة فهي تمثل النزعة السلوكية والأليات الفيزيولوجية للحيوانات العليا. ويعرّفها علماء البيولوجيا الحيوانية، وعلم النفس، وطب النفس، والأنثروبولوجيا وغيرهم من علوم بأنها:
“الطبيعة التي تقابل الثقافة”.
وفي اعتقادي فأن المواطن العربي انتفض في ذلك اليوم انتفاضا ليس غريزيا، بل كان بعد تلقيه أوامر واضحة من عقله الباطني بضرورة التعبير السريع عن الفرحة التي غمرت نفس كل مواطن عربي..
ولعمري فأن شعبنا قد تثقف منذ الأزل عبر الثورات العربية المتعددة من تعدد وتكرار العدوان والاحتلال والطغيان والأستعمار، وكانت ثورة الزعيم جمال عبد الناصر أخر أعظم مدارس الثورات التي ثقفت وعلمت المواطن العربي معنى الحرية، ومعنى رفع الرأس، ومعنى العزة والكرامة والكبرياء، ومعنى تحدي الظلم والعبودية والذل والأنتفاض عليهم.
فكان هذا السلوك الجماهيري بمثابة تسونامي هائل نتج عن بحر من مشاعر عروبية محصنة داخل كل جينات خلايا جسم كل مواطن عربي ومدروسة تماما، وراسخة عبر مرور الزمن في ضمير ووجدان وقلب وروح شعبنا الذي طالما تعود في الستينيات على سماع خطابات الرئيس جمال عبد الناصر المُعلمة التي كوّنت تراثا أضافيا أبديا كان يلهب احاسيس ومشاعر ذلك الشعب المتعطش للحرية وللتقدم وللعيش الكريم ولردع العدوان الفكري او الأعلامي، أو الأقتصادي، أو العسكري على أي شبر من أراضينا العربية
وعليه فإني أؤمن ايمانا لا يتزعزع بأن سلوكات جماهيرنا العربية التي شهدناها إثر انتصارات اسود المغرب العربي، لم تكن انفعالات غريزية أوتوماتيكية، وطرازا من سلوك يعتمد على الفطرة والوراثة البيولوجية، بل كانت سلوكات وراثية تاريخية لتراث نضالي عروبي منذ أكثر من 5000 سنة قبل الميلاد.
فتراث كل أمة بما فيها من جماعات وشعوب، أنما هو ذلك التراكم المتلاحق الحلقات عبر العهود والعصور، من الأختبارات والمنطلقات والتجارب والأنجازت بما لها من ملامح وأبعاد وقسمات: أن في السياسة والحكم أو في الأجتماع والعمران، أو في الفن والأدب، أو في العلم والأقتصاد، وبهذا ينتقل التراث من سابق الى لاحق، ومن ماض الى حاضر، ليبقى شاهدا حيا على وحدة الأصل وعاملا على الأستمرار والديمومة مستقبلا.
لقد كانت سلوكات جميع جماهيرنا العربية المشرفة بسبب مونديال قطر، تطبيقا عقليا علميا وعمليا لدروس تعلمناها من السلف العربي المناضل الذي كان قبل عبد الناصر، وستبقى هذه الدروس راسخة في عقولنا وقلوبنا و داخلنا بعد عبد الناصر.