تمثل رواية ” الباب الأخضر” أحد العلامات البارزة المضيئة في المشروع الروائي للكاتب الصحفي والأديب محمد هلال.. وذلك لتميزها وغوصها في نفوس أبطالها مستخرجة منها خفايا لايسهل معرفتها إلا بالإقتراب الشديد بل والمعايشة لفترة طويلة .. فلا يبوح شارع الباب الأخضر بأسراره الغرائبية المدهشة المتنوعة المتباينة إلا لمن يعيش فيه .
فلا يعرف عنه العابرون والزائرون إلا أنه الشارع الملاصق لمسجد الإمام الحسين وبه يقع “الباب الأخضر”الذي دخل منه الرأس الشريف ملفوفًا في حرير أخضر، فسمي بهذا الإسم ..وتم طلاء الباب الخشبي العتيق باللون الأخضر.. وانه الشارع الذي تباع فيه لعب الأطفال والبخور والحمص والحلوى فقط..
التجوال في صفحات رواية الباب الأخضريكشف الغطاء ويظهر لنا عوالم متنوعة ومتباينة ، ودنيا كبيرة مليئة بالخير والشر، والحب والكراهية، والفضائل والفضائح وعظيم الأسرار .
تشمل المفارقات المكان نفسه ، وهو يمثل دور بطولة لايقل أهمية عن شخوص الرواية ، ولانكون مبالغين إذا قلنا أن المكان هو البطل الحقيقي الذي يتفاعل على أرضه التاريخ ، فيتضافر التاريخ والجفرافيا ــ جغرافيا المكان ــ في تآلف بديع المتناقضات .. فإلى جوار المشهد الشريف تتراص محال بيع المصحاف والكتب الدينية إلى جوارها كتب السحر ومعرفة الطالع ، ثم محال العطارة والحلوى الملونة والحمص وبدل الراقصات وأدواتها الشعبية من المزامير والطبل والدفوف والصاجات ، كذا تتنوع المقاهي بين من يقدمون المشروبات ومن يقدمون الرقصات وأشياء أخرى..
وبطبيعة جغرافيا المكان المتناقضة ، نرى البسطاء يتزاحمون بشارع الباب الأخضر بينما الأثرياء والوجهاء في الجهة المقابلة من ميدان الحسين أمام المسجد يسهرون حتى الصباح على المقاهي السياحية مرتفعة التكاليف ، ثقيلة الأفعال السيئة ، فهى مرتع لبنات الليل والهوى تحت مسمى الحصول على الرزق المكنون في حافظات نقود الأثرياء من كل الجنسيات العربية والمصرية .
لكل بطل في الباب الأخضرحكايته الخاصة جدًا والتي صاغ الأديب محمد هلال منمنماتها ببراعة شديدة رغم غرابتهم وغرابة قضاياهم ، من سارقي أحذية المصلين ، زوار الإمام الحسين إلى من يطعمون الطعام ويقيمون حلق الذكر والصلوات، ومن يتبرعون بدمائهم من الشباب للحصول على مقابل مادي يشترون به الأقراص المخدرة وصور الإغتصاب تحت سيف القوة والبلطجة وحتى الشذوذ النفسي والجنسي .. وعلى حد شهادة الأديب الكبير نشأت المصري في معرض تعليقه على الرواية يقول : ” رواية عامرة بزخم الحياة من أسرار النفوس وأحلامها الشاردة وأحوال الملتصقين بمنطقة الحسين والمسجد خاصة في أسلوب جذاب.. هنيئًا للمؤلف القدير والقاريء المحظوظ بقراءتها” .
على جانب آخر صاغت الأقدار لهذه الرواية الغريبة قدرًا أشد غرابة ، وقد سجله المؤلف في مفتتح الراوية، مايؤكد تفردها من ناحية التكنيك الروائي وكذا الأحداث ، فهى الرواية الأولى التي كتبها المؤلف من خلال جهاز ” الكمبيوتر” في رحلة تحوله من الكتابة على صفحات الورق إلى صفحة ” شاشة ” اللابتوب .وكانت المفاجأت غير السعيدة التي أطاحت بالرواية من الجهاز لخطأ ارتكبه الكاتب عبر نقره على أزرار الجهاز .. وإذا بجزء جديد من الأحداث يتشكل ويولد في ذهن المؤلف وكأننا إزاء رواية جديدة تتكأ في مسبابت حياتها على الرواية الأولى ” الباب الأخضر” فهاهي رواية ” الشخصيات تحاكم مؤلفها ” ثم جزء ثالث يساهم في تلك الحالة الغريبة؛ وهى أن يقوم المؤلف بعد عدة سنوات طويلة بزيارة المكان ليرى من بقي من الأبطال على قيد الحياة وكيف تقلبت به الأقدار ، هؤلاء الأبطال الذين جاء بهم من خياله، محض خيال روائي! وكأننا حيال عدة روايات وليس رواية واحدة .
على أية حال رأى المؤلف شخصيات الرواية قد طارت في الهواء وتحررت من قيد حبسها داخل الجهاز ثم جاءت تحاكمه على سوء منقلبها ونهايتهم التي لاتليق بهم وكأنه المسؤل الأول عن أقدارهم وأفعالهم التى كتبها عليهم في صفحات الرواية .. وكانت ليلة عصيبة في حياة المؤلف أمام الغضب العارم للشخصيات ، ليكتشف أن عدم الرضا عن أقدارهم صفة عامة لكل بشرالرواية.
يقول المؤلف : استحال النوم ليلتها، وفي ظلام الغرفة حدث ماجعلها أطول ليلة عصيبة في حياتي، اقتحمت شخصيات الرواية غرفتي واجتاحت وحدتي ليحاكموني على أقدارهم التي كتبتها عليهم، منهم الغاضب جدًا ومنهم من يهدد ويتوعد، كلٌّ منهم جاء على حاله وهيئته، من هو بقايا آدمي لأنه مات مقتولًا، وفرّقت قاتلته لحمه على صناديق القمامة، وكان صاحب نفوذ في حياته ولا تليق به تلك النهاية القبيحة، ومن يشكرني لستري الكثير من فضائحه ومخازيه، إلا أنه غير راضٍ عن قدره الروائي، ومن تدعو عليّ بأن أرى في حياتي ماكتبته عليها، وهكذا كانت أطول ليلة عصيبة في حياتي كأنها ألف عام ، ولم أفلح في إقناعهم بأنني مجرد كاتب روائي أختار الشخصيات وفقًا لسياق القصة وأحداثها، ثم أتركهم يتفاعلون و يرسمون حياتهم ويختارون مايحلولهم، سواء كان خيرًا أم شرًا دون أن أتدخل فيما يفعلون، وكل ماأفعله هو؛ مراقبتهم وتسجيل أفعالهم حتى تنتهي أحداث الرواية .. فمن العجيب والغريب وغيرالمنطقي أن أبدو شريرًا وخيّرًا في نفس الوقت، كما يتوهمون! أن أجمع بين إرادة الطيبين والأشقياء من الشخصيات بما يحلو لي وليس مايحلو لهم، وأن أختارلهم نيابة عنهم إجبارًا أو إرغامًا لهم، ثم أكتب عليهم النهاية التي تروق لي أنا دون عدل بينهم، بدعوى أنني مؤلف الرواية.
وهكذا يبحر بنا المؤلف محمد هلال في عوالم نراها تتجسد أمامنا لايمكننا التفريق بين ماهو واقع منها وماهو خيال لنعود إلى لحظة البدء وهى كلمات الإهداء التي تقول:
إلى الظالم المظلوم .. القاتل المقتول .. الرافض دومًا لِقَدَرِه ..
الطامع في وهم اسمه السعادة؛ وهو يعلم أن الدنيا خُلقت للمشقة والكَبَد ..
إلى مخلوق وصفه خالقه بأنه كان ظلومًا جهولًا.. إلى الإنسان .