شريعتنا الغرَاء كانت سبّاقة في وضع الحلول والأحكام لأي من المشاكل والمستجدات , فلا يخفى على أحد منا أهم خاصية تتميز بها الشريعة الإسلامية وهي أن تكون صالحة لكل زمان ومكان مما يقتضي بالتالي أن يكون بها من المرونة ما يجعلها صالحة لان تكون آخر الأديان.
ولقد تناولت الشريعة السمحة موضوع الأسرة بالتنظيم , وجعلت لهذا الموضوع من الأهمية الشيء الكثير فنرى في الأحاديث والآيات القرآنية من الأوامر والنواهي الكثير والتي تركز بالدرجة الأولى على الترابط الأسري , فلقد سدت الشريعة بأوامرها وترغيبها باب العنف الأسري ووضعت من الحلول ما يحول دون حدوث العنف بأنواعه . ولكن الشريعة خاطبت الناس بأساليب مختلفة ومتدرجة فتارة توجههم بطريق الترغيب وتارة أخرى توجههم بطريق الترهيب وذلك لأنها تعي اختلاف عقليات البشر فإن ارتدع المخالف تكون قد حققت القصد وإن لم يرتدع تطبق عليه العقوبة ويأثم فوق ذلك .
وسأتناول في هذا المبحث مظاهر علاج الشريعة للعنف الأسري من خلال مطلبين وهما :
المطلب الأول : علاج الشريعة للعنف الأسري بطريق الترغيب .
المطلب الثاني : علاج الشريعة للعنف الأسري بطريق الترهيب .
المطلب الأول : علاج الشريعة للعنف الأسري بطريق الترغيب :
وله صور عديدة , وهي كالتالي :
الفرع الأول : وجوب العدل بين الزوجات في المبيت والنفقة والعشرة :
لما كان العدل بين الزوجات سببا لاستقرار الحياة الزوجية والشعور بالأمان الأسري وكذلك سبيل للعشرة بالمعروف التي أمر الله بها في قوله : }وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ{ النساء _ آية 19
فلقد اتفق العلماء أن العدل أمر واجب على الزوج وهو شرط إباحة التعدد , والعدل الواجب على الزوج هو العدل فيما يملك وهذا واضح في المبيت والنفقة والعشرة .
ويدلل على وجوب العدل قوله تعالى: } فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً{ النساء _آية 3
* العدل في المبيت :
المراد به : هو التسوية بين الزوجات في المبيت فيقسم الليالي بينهن بالتساوي , بأن يبيت عند كل واحدة وقتاً مساوياً للوقت الذي يبيته عند الأخريات .
ولقد اتفق الفقهاء على وجوب العدل في المبيت , فيجب على الزوج العدل والتسوية بين نسائه فيما يملك ومن ذلك البيتوتة عندها وفي ذلك تحقيق القصد من المبيت عند الزوجة وهو الصحبة والمؤانسة وإذهاب الوحشة وسد باب الحقد والضغائن بين الزوجات والأقارب .
* العدل في النفقة :
المراد به : الإدرار على الشيء بما فيه بقاؤه , أو هي ما يفرض للزوجة على زوجها من مال للطعام والكساء والحضانة ونحوها .
ودليل وجوب النفقة قوله تعالى : } لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا { الطلاق_7
ويرى جمهور الفقهاء أن الواجب على الزوج أن ينفق على كل زوجة بما يكفيها ويليق بحالها .
ويرى الدكتور فهد العنزي عميد كلية الأنظمة والعلوم السياسية التابعة لجامعة الملك سعود في رأي أبداه خلال ندوة العنف الأسري في تاريخ 20/ ديسمبر /2008 , أن حرمان الزوجة من النفقة والمال والكفاية لا يعتبر من قبيل العنف ولا يعد عنفا أبدا بل يعد مجرد حرمان من حق من حقوقها , وهذا عكس ما نراه , صحيح أن الحرمان من النفقة لا يعد عنفا بمعنى عنف ولكنه يجر ويوصل إليه وهو أسهل الطرق إلى العنف حيث من أهم أسباب العنف الأمور الاقتصادية .
* العدل في العشرة :
المراد بها : حسن مصاحبة كل من الزوجين للآخر بالقول والفعل .
ويجب على الزوج أن يعاشر كل زوجاته بالمعروف ولا يميل إلى واحدة دون أخرى بشكل واضح وهذا مؤسس على أمر الله تعالى في محكم كتابه بالمعاشرة بالمعروف .
برأيي في عدل الزوج بين زوجاته في العشرة والنفقة والمبيت سد لباب كبير من أبواب العنف النفسي الذي قد يقع على الزوجة التي وقع الظلم عليها , فالشريعة اهتمت حتى بهذه الأمور الدقيقة التي قد تكبر مع الأيام وتؤدي إلى أمور أعظم .
الفرع الثاني : وجوب نفقة الولد على والده والعكس :
تجب نفقة الأولاد على الآباء بدليل الكتاب والسنة والإجماع .
قال تعالى : } وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ {البقرة_233
وأما السنة فدليلها أن هند أم معاوية جاءت إلى رسول صلى الله عليه وسلم وقالت : إن أبا سفيان رجل شحيح وإنه لا يعطيني وولدي إلا ما آخذ منه سراً وهو لا يعلم, فهل علي في ذلك شيء ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : } خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف { ولكن يشترط لوجوبها على الوالد أن يكون حرا قادرا على نفقته وقبل ذلك أن يقدر على نفقة نفسه لقوله صلى الله عليه وسلم } ابدأ بنفسك ثم بمن تعول { , فإذا توافرت هذه الشروط وجبت نفقة الابن على الأب ولا يجوز التحلل منها .
وعلى العكس نفقة الوالد واجبة على ولده كما وجبت نفقة الولد على والده وذلك لقوله عز وجل } وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً { لقمان_آية15 , وكان من المعروف القيام بكفايتهما , فلقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال :
إن لي مالاً وعيالاً ولأبي مال وعيال ويريد أن يأخذ مالي فقال صلى الله عليه وسلم :} أنت ومالك لأبيك {
وإن حق الوالد أعظم من حق الولد فهو لا يقاد بقتله ولا يحد يقذفه فلما وجبت عليه نفقة ولده كان من الأولى أن تجب نفقته على ولده .
وبهذا سدت الشريعة باب القطيعة والحقد والضغائن والتي قد تصل إلى أمور أعنف بسبب المال .
الفرع الثالث : وجوب نفقة الزوجة على زوجها :
اتفق الفقهاء على وجوب نفقة المرأة على زوجها , واستدلوا على ذلك بأدلة من الكتاب والسنة والإجماع
أما الكتاب فقوله تعالى : } وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ {البقرة 233
فنص على وجوبها بالولادة في حال تشاغلت بولدها عن استمتاع زوجها , ليكون أدل على وجوبها عليه في حال استمتاعه بها .
وفي السنة نرى فيما روي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبة حجة الوداع : } اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله …. ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف {
وأما الإجماع فقد اتفق أهل العلم وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إلا الناشز منهن .
فالشريعة لما أوجبت النفقة وقفت موقفا قويا في وجه الرجل الذي قد يحرم المرأة من حقوقها فتعيش بلا مادة وبالتالي يحدث التفكك الأسري بين الزوجين ثم يضيع الأطفال بسببه وهذا ما أرادت الشريعة تجنبه
الفرع الرابع : وجوب الرضاعة في الحولين حتى في حال الطلاق :
الأم هي أقرب الناس إلى ولدها ولبنها هو أفضل غذاء له باتفاق أهل الطب , وهي أشد الناس شفقة على ولدها وأكثرهن حناناً عليه وعلى هذا الأساس نطقت النصوص الشرعية بأمر الوالدات بإرضاع أولادهن , فقال تعالى :} وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ { البقرة _ آية 233 والنص وإن كان وارداً في صورة الخبر إلا أنه في معنى الأمر فيدل على الوجوب على وجه التأكيد , ولهذا لم يختلف فقهاء المسلمين في ذلك , فقالوا جميعا بوجوب الرضاع على الأم سواء كانت متزوجة بأبي الرضيع أم كانت مطلقة منه وانتهت عدتها فإن امتنعت مع قدرتها كانت مسئولة أمام الله . وفي هذا تأكيد صريح وواضح على شد وتقريب حبل التواصل الأسري , حتى في حال الفرقة فالشريعة راعت مصلحة الطفل بالرغم من حصول الطلاق , لمعرفتها بحاجة الطفل للحنان والرعاية التي إن حرم منها سوف يكبر بشخصية مزعزعة غير قادرة على العطاء بسبب تعرضه لهذا الإهمال أو العنف النفسي .
الفرع الخامس : الاهتمام بموضوع المواريث وقسمتها عند الله تعالى :
اهتم الإسلام بموضوع المواريث فقسم التركات تقسيماً دقيقاً , فتوزيع التركة بالأنصبة التي حددها العادل والبصير بأفعال العباد وأخلاقهم تنطوي على حكمة بليغة سواء في رباط الأسرة بعضها ببعض أو في تكريم المرأة في التشريع الإسلامي فالإسلام أوجب على الرجل الإنفاق على المرأة وفي المقابل أعطى المرأة نصف ما للرجل من ميراث لأنها لا تتكلف ولا تتحمل شيئاً من النفقة وما تأخذه يعتبر في حكم الادخار فالمرأة إما أن تكون في بيت أبيها أو بيت زوجها وهي في الحالتين مكفولة المئونة ويجب على الأب أو الزوج نفقتها .
فمن عدل الإسلام أن خص الرجل بهذا النصيب فقد جعل الله عبء الأسرة وإنشائها كله على الرجل } لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ {سورة النساء_آية11
فالإسلام أعطى المرأة حقها الكامل فهو جعلها مرفهة منعمة أكثر من الرجل لأنها شاركته في الإرث دون أن تتحمل شيئا من التبعات فالمرأة فبل بزوغ شمس الإسلام كانت لا تعطى شيئاً بحجة أنها لا تقاتل , ولا تدافع عن العشيرة فلما نزلت آية المواريث كبّر العرب فكانوا يودون أن ينسخ الحكم لأنه يخالف ما اعتادوا عليه وألفوه .
ومن المعروف أن أغلب قضايا التفكك الأسري وخاصة داخل الأسر النووية تنشأ عن الميراث وكيفية تقسيمه فجاءت الشريعة لتسد هذا الخلل وحددت نصيب كل وارث بدقة , وأيضاً المرأة وحتى وقتنا الحالي في بعض المجتمعات والقبائل لا زالت تحرم من الإرث وأساس ذلك التمييز العنصري بين الرجل والمرأة الذي ألغته الشريعة إلا في أمور معينة فلو أن الكل تمسك بتقسيم الشريعة لما حدث التفكك الأسري والعنف الذي قد يصل إلى قتل بعض الورثة أحياناً ولقد شاهدت قضية في أحد مكاتب المحاماة ولكن لا يتسنى لي عرضها بسبب الالتزام بالسرية كانت ستصل إلى ما يسمونه بـ ” الدم ” بين أفراد الأسرة الواحدة كل هذا بسبب الإرث , وعدم رضاهم بحكم الشريعة .