قالت له وهِي في سعادةٍ غامرة: قابلتُها صباحَ اليومِ يا أحمد!
- من هي يا أمي؟
- عروسُك التي اخترتُها لك يا بُني.
- لا تُجْهِدي نفسَكِ يا حبيبةَ قَلبِي. اختار قلبي من هي أجْملَ منها بكثير.
-من هي يا مُنيةَ القلبِ وحَياةَ الروح؟
- إنها أغلى من حياتي، سأُخبِرُك عند عَودتي من الأجازة.
وَدَّعَ أحمدُ أمَه بتقبيلِ يَديْها ورأسِها ثم احتَضَنَها بِحرارةٍ طالِبًا منها الدعاء.
انطلق إلى كتيبته – فرِحاً- وكأنه ذاهبٌ لحفل عُرسه. اختفى أحمد، واختفى معه النورُ، أطبق الظلامُ على القرية وكأنه شَبحٌ مُخيفٌ يخطِفُ الأبصارَ من العيون، والأرواحَ من القلوب.
انتصف ليل القرية، وأرخى أستارَهُ على كل شيء، واستَحْكمَ الصمتُ الرهيب على الأرجاء، عدا نقيق الصراصيرِ، ونعيق الغِربان.
ولم يقطع هذا الهدوء القاتل سِوى أصواتُ بعض الشبابِ الذين يجلسون على المقهى الوحيد بالمدخل الرئيسي للقرية.
علِمَ الشبابُ مُبَكرا، زادت أعدادُهم تدريجيًا، وزاد معهم الهمسُ، والنفي والإثبات، والتكذيبِ والتصديق.
أمُه سيدةٌ مصرية من طين القرية. روتْ أرضُها الطيبة من عَرقِها الزكي، وأينعت ثمار حقولِها علي يدِيها النحيلتين اللتين لم تعرفا الوهن، وأزْهَرت حُقول القطن بيديها حتى صارت قناديلا تُضيئ ليل القرية البهيم، اصطبغ وجهُها الطيبُ بلون قمحِها الأصفر.
ضعُفت يداها حتى قويت يداه، وانحنى ظهرها حتى ارتفعت هامتُه في السماء، أرضعته حبَ الأرض ، والطينِ، والوطن.
مكالمة هاتفية بعد منتصف الليل: استعِدُوا لاستقبال العريس!!
عَطِّروا سماء القرية بالتهليل والتكبير والدعاء.
تراصَ الناس علي جانِبي الطريق تأهُبَا لوصول الموكِب.
لم يبِت أحدٌ في منزله.
لا يزال في العشرين من عمره، وعَدَها أن يُرِيحَها، ويُخفِفَ عنها جَهدَ السنين. الناسُ في حالةِ صدمةٍ وذُهولٍ مِن هَوْلِ الخبر!
فكيف لقلبِ أمهِ أن يتحمل؟ ومن الذي يجرؤُ على إخبارِها؟
في الصباحِ تم التَثَبُتُ مِن الأمر .
أَرْدَتْهُ رَصاصاتُ الغدرِ شهيدًا لِيروِي تُراب
الوطن بدمائه الزكية. وتحولَ جسدُه الطاهرُ إلي جِسرٍ يَعبرُ به الوطن إلي برِ الأمان. وأضحتْ رُوحُه أيقونةً للفداء والتضحية.
وبعد ساعات مرت على الناس كأنها دهرَا، أتى الموكبُ من بعيدٍ، الحزن يملأ القلوب. والدموعُ كأنها مياهُ النيلِ الهادِرة. الكل يريد أن يُلامِسَ جسدُه الطاهر، ويحظى بشرف وداعِه وإلقاء النظرة الأخيرة على جُثمانِهِ الشريف.
حَملوه علي الأعناق مُرددين جميعًا:
لا إله إلا الله
الشهيدُ حبيبُ الله.
وبصوتٍ خافتٍ حزين، ونشيجٍ صَمَّ آذانَ المُشيعين، ودموعٍ تحملُ مَعهَا قهرَ السنين. خرجت آهةً حزينة – من قلب أمِهِ الذي ينبض بالحنين- أشعلت نيران الغضبِ على كل خوانٍ أثيم.
وانسابت الدموع بين تجاعيدِ وجهِهَا العميقة التي صنعها الزمن.
وفي لحظة إشهار عُرسه، ووداعِه لمثواه الأخير، نادت عليه:
يا مُنية القلب، وحياة الروح اخترتُ لك عروسك، واختار الله لك عروسًا في الجنة.
تمت