يقول الحق جل شأنه في محكم تنزيله في سورة محمد : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)
وفي مفهومَيْ الموافقة والمخالفة في علم المنطق ، ينصر الله من ينصره ، ومن لاينصر الله لا ينصره الله ، وليست موقعة (أُحُد) ببعيدة عنا من خلال هذا المفهوم، فقد نصر الله المسلمين في أول المعركة حين نصروا الله ، ونصر أعداءهم عليهم في نهاية الموقعة حين تخلوا عن نصر الله ، وخالفوا أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم ، فأوامره صلى الله عليه وسلم كانت صريحة وواضحة ، فقد أورد الإمام البخاري في الجامع الصحيح المختصر عن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال : جعل النبي صلى الله عليه و سلم على الرجالة ــ جمع راجل وهو الذي يقاتل على رجليه ــ يوم أحد ــ وكانوا خمسين رجلاً ــ عبد الله بن جبير فقال ( إن رأيتمونا تخطفنا الطير ــ من الخطف وهو استلاب الشيء وأخذه بسرعة معناه إن قتلنا وأكلت لحومنا الطير ــ فلا تتركوا أماكنكم وقيل هو مثل يراد به الهزيمة) فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم ، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم ــ وأوطأناهم أي: مشينا عليهم بعد أن وقعوا قتلى على الأرض ــ فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم )
فهزموهم ، قال البراء: فأنا والله رأيت النساء يشتددن قد بدت خلاخلهن وأسوقهن رافعات ثيابهن ، فقال أصحاب عبد الله بن جبير : الغنيمة أي قوم الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنتظرون ؟ فقال عبد الله بن جبير أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قالوا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة ، فلما أتوهم صرفت وجوههم ، فأقبلوا منهزمين .
ويجب ألايغيب عن أذهاننا أن الله سبحانه نصر المسلمين في بدر وهم قلة في العد والعدة ، وهُزموا في حُنين في أول المعركة ، والحق جل شأنه يقول في سورة التوبة : ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ) حتى لم يصمد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله نفر قليل من المسلمين, فقال صلى الله عليه وسلم لعمه العباس رضي الله عنه أن ينادي في الناس ـــ وكان جهوري الصوت ــ ليعودوا إلى أرض المعركة حيث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعادوا جميعهم إلا القليل منهم ممن هم حديثو عهد بالإسلام ، وقاتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهت موقعة حنين بنصر المسلمين ، وغنموا في حنين من ثقيف هوازن مالم يغنموه قبل تلك الموقعة ولا بعدها.
لقد كانت الهزيمة حليفتهم في أول الموقعة، رغم أنهم يفوقون عدوهم ثلاثة أضعاف في العدد والعدة ، لأنهم قالوا : لن نهزم اليوم من قلة ؛ فنتائج المعارك لا يحسمها العدد والعدة فقط ، وإنما هناك (نصر الله) الذي هو أهم من كل شيء ، وذلك باللجوء إليه والاعتماد عليه والإيمان بأنه قادر على نصرهم على قلة عددهم وعدتهم ، حين يُسَلِّمُون أمرهم إليه ، ويتوكلون عليه في جميع شؤونهم ومختلف أحوالهم ، وتكون الهزيمة من نصيبهم حين يركنون إلى كثرة عددهم ، ، وقوة عدتهم ، متناسين أن النصر من عند الله ، حيث إن كثرتهم لم تنفعهم شيئاً إذا لم يكونوا مؤمنين صادقين، موقنين بأن النصر من عند الله، لا يعرف الغرور طريقاً إلى قلوبهم ،
في هذه الأيام نجد الناس في مجالسهم يخوضون ويتحدثون عن حال الأمة الإسلامية ، ومآسيها، ونكباتها، وما أُصيبت به من الهوان والذل خاصة بعد أن رأوا وسمعوا في وسائل الإعلام المتعددة ، صوراً لمآسي المسلمين ، وخاصة المقدسيين وعموم الفلسطينيين ومايعانونه دفاعاً عن الأقصى الجريح ، من ذل وهوان وتقتيل ، ومنع المصلين من إكمال صلاتهم بقوة السلاح ، كل هذه المناظر وتلك المواقف تفت الفؤاد، وتكلم القلب، وتعصف بالبدن ، خاصة وأننا في شهر رمضان المبارك .
هل سألنا أنفسنا لماذا كل هذا الهوان الذي نحن فيه ، ونحن لانقدم لإخواننا في فلسطين إلا الشجب والاستنكار والإدانة لمايحدث لهم من المستوطنين الصهاينة وقوات جيش الاحتلال.
وقد يتبادر إلى أذهاننا سؤال:هل ظَلَمَنا الله جلَّت عظمته وتقدَّست أسماؤه ــ وحاشا له أن يكون ظالماً ــ عند ما أنزل علينا المصائب؟
فالحق سبحانه قال عن نفسه في سورة فصلت : (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) وقال جل شأنه في سورة يونس :(إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).
وأخبر تبارك وتعالى في حديث قدسي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه أنه حرَّم الظلم على نفسه، فقال:( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا .
ولكن الله سبحانه أنزل علينا قرآناً يتلى إلى يوم القيامة ، قد بيَّن فيه أنه ما من مصيبة تحل بالمسلمين إلا بسبب معاصيهم وذنوبهم وتضييعهم حرمات ربهم وأوامره ونواهيه، فقال في سورة الشورى : (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)
وورد في الأثر الذي نسب مرة إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ومرة إلى العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه أنه قال: “ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة”
فما من مصيبة وقعت علينا ، ولا كارثة حلَّت بنا ، ولانازلة حطت فوق رؤوسنا نحن المجتمع الإسلامي ، إلا ونحن السبب فيها بذنوبنا ، وتقصيرنا في حق الله سبحانه الذي خلقنا للعبادة ، ولكننا مع شديد الأسف عبدنا غيره ، فالحق جلَّ شأنه يقول في سورة الذاريات : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) يقول الإمام الطاهر بن عاشور في تفسيره (التحرير والتنوير ) : ومعنى العبادة في اللغة العربية يُستخلص منها أنها إظهار الخضوع للمعبود ، واعتقاد أنه يملك نفع العابد وضُرّه ملكاً ذاتياً مستمراً، فالمعبود إله للعابد .
وسنن الله لا تتغير ولا تتبدل ، فالله عز وجل وعدنا بالنصر وأن يهزم عدونا ، ولكن هذا النصر مقرون بشرط ألا وهو نصر دين الله ، ولايكون ذلك إلا بالجهاد في سبيله ، والالتزام بطاعته، والبعد عن معصيته ، ونصرة نبيه صلى الله عليه وسلم باقتفاء أثره ، والسير على منهجه واتباع سنته المباركة ،وقد أخبر الله تعالى أنه لن ينصر إلا أهل الطاعة والإيمان فقال سبحانه في سورة غافر : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)
وبين لنا سبحانه أنه في حالة أن تولينا عن نصرة دينه ، ورفع رايته، فإنه يستبدل قوماً يقومون بحق الله ونصرة دينه، فقال في سورة محمد : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)
وأخرج الإمام المنذري في الترغيب والترهيب عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : أقبل علينا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال : يا معشرَ المهاجرين خمسُ خِصالٍ إذا ابتليتم بهنَّ وأعوذُ باللهِ أن تدركوهنَّ ، لم تظهَرِ الفاحشةُ في قومٍ قطُّ حتَّى يُعلِنوا بها إلَّا فشا فيهم الطَّاعون والأوجاعُ الَّتي لم تكُنْ مضت في أسلافِهم الَّذين مضَوْا ، ولم ينقُصوا المكيالَ والميزانَ إلَّا أُخِذوا بالسِّنين وشدَّةِ المؤنةِ وجوْرِ السُّلطانِ عليهم ، ولم يمنَعوا زكاةَ أموالِهم إلَّا مُنِعوا القطْرَ من السَّماءِ ولولا البهائمُ لم يُمطَروا ، ولم يَنقُضوا عهدَ اللهِ وعهدَ رسولِه إلَّا سلَّط اللهُ عليهم عدوًّا من غيرِهم فأخذوا بعضَ ما في أيديهم ، وما لم تحكُمْ أئمَّتُهم بكتابِ اللهِ تعالَى ويتخيَّروا فيما أنزل اللهُ إلَّا جعل اللهُ بأسَهم بينهم.
ومن سنن الله تعالى التي لاتتغير ولا تتبدل أننا إذا نحن عصينا الله وخالفنا أمره سلَّط علينا الأعداء ، والغلاء ، والبلاء، والوباء، والضراء ، فقد قال جل شأنه في سورة النور : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)
إن الله عز وجل- لما ذكر الأمم الكافرة التي عصت رسله،وخالفت أمره قال عنهم في سورة العنكبوت : ( فكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)
ولكن إكراماً للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم رفع عن الأمة المحمدية كل العذابات السابقة ، يقول الإمام القاري في (مرقاة المفاتيح): في قوله صلى الله عليه وسلم : “إنما بعثت رحمة” أي للناس عامة، وللمؤمنين خاصة … لقوله تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة للبشرية جمعاء كما قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع الناس، فمن آمن به وصدَّق به سعد، ومن لم يؤمن به سلم مما لحق الأمم من الخسف والغرق”
لكنه صلى الله عليه وسلم أخبر بوقوع أصناف من العذاب العميم الذي يصيب بعض الأمة دون بعض كما في أحاديث المسخ والقذف والخسف الذي يكون بين يدي الساعة.
ومن رحمته صلى الله عليه وسلم ماأورده الإمام الترمذي في سننه عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: صلَّى رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ صلاةً فأطالَها ، قالوا : يا رسولَ اللَّهِ ، صلَّيتَ صلاةً لم تَكُن تُصلِّيها ، قالَ : أجلْ إنَّها صلاةُ رَغبةٍ ورَهْبةٍ ، إنِّي سألتُ اللَّهَ فيها ثلاثًا فأعطاني اثنتَينِ ومنعَني واحدةً ، سألتُهُ أن لَا يُهْلِكَ أمَّتي بسَنَةٍ فأعطانيها ، وسألتُهُ أن لَا يُسلِّطَ علَيهِم عَدوّاً من غيرِهِم فأعطانيها ، وسألتُهُ أن لَا يُذيقَ بعضَهُم بأسَ بعضٍ فمنعَنيها.
إن الذى يملك إعطاء النصر فى جميع المعارك إنما هو الله -سبحانه وتعالى- فهو يعطيه لأوليائه، نصرة وتمكينا لهم، وقد يؤخره عن المؤمنين ليختبرهم فى إيمانهم وصبرهم، وهذا لون من التربية والتمحيص .
وكانت دائماً وصية الخلفاء الراشدين إلى جنودهم إن أخوف ما أخاف عليكم ذنوبكم ، فإذا تساويتم مع الأعداء فى المعصية كانت الغلبة للأقوى.
ولما رأى المسلمون كثرة الروم فى غزوة مؤتة قال أحدهم ما أكثر الروم وما أقل المسلمين؟ فرد عليه الصحابي الجليل عبدالله بن رواحة قائلاً: بل ما أقل الروم وما أكثر المسلمين، إنما ننتصر عليهم بطاعتنا لله، ومعصيتهم له، والله إن الذي تكرهون لهو الذي من أجله خرجتم. يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله : إن الله وعد المسلمين النصر ، فما بالنا لا ينصرنا الله .. ونحن ندعو على المنابر في كل جمعة : اللهم أعز الإسلام والمسلمين .. ونحن ندعو على الكفار أن يشتت شملهم، ويفرق جمعهم ، وأن يجعل تدميرهم في تدبيرهم .. إلا أننا ندعو عليهم ، ونحن نتبع خطواتهم ، ونترك أحكام شرعنا ، ونقتدي بهم ، فقد أورد الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي سعيد رضي الله عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُم شِبْراً بشبْر، وذراعاً بذراع، حتَّى لو سَلَكُوا جُحْر ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ؛ قلنا: يا رسول الله؛ اليهودُ والنَّصارى؟ قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: فَمَن؟!)
يخبر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أن أمة الإسلام ستسلك طريق الأمم الأخرى في الضلال والانحراف ، و سوف تتبعهم في عاداتهم وتقاليدهم ومناهجهم ، وفي كل ما يعملون، سواء كان ذلك في أمر دينهم أو دنياهم وطرائق معايشهم، أو حتى في ملابسهم وأساليب حياتهم، وطريقة تفكيرهم ، وقد وقع ما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم كما أخبر تماماً.
لقد سقطوا في مستنقع الرذيلة فسقطنا، وفعلوا المعاصي والآثام ففعلنا، ودعوا إلى كل ما يخالف الفطرة السوية والشرائع الربانية بلا حياء ولاخجل ، وبعضنا لم ينكر فعلهم، بل صار منا من يدافع عنهم ، وعن سلوكياتهم المشينة .
وختاماً نقول : ولنا في موقعة بدر دروس عظيمة مستفادة .