الاستقامة فى اصطلاح أهل الحقيقة هى: الوفاء بالعهود كلها، وملازمة الصراط المستقيم بمراعاة حدّ التوسط فى كل الأمور مِن الطعام والشراب واللباس وفى كلّ أمر دينىّ ودنيوىّ؛ فذلك هو الصراط المستقيم كالصراط المستقيم فى الآخرة ..
لذلك قال المصطفى صلى الله عليه وسلم {شَيَّبَتنى سورة هود؛ إذ أنزل فيها { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْت }}.
والاستقامة: أنْ يَجمع المسلم بين أداء الطاعات واجتناب المعاصي.
وقيل : الاستقامة ضد الاعوجاج ، وهى مرور العبد فى طريق العبودية بإرشاد الشرع والعقل والمداومة.
وقيل : الاستقامة أنْ لا تختار على الله شيئاً [ إجعل همّك الله ] .
قال أبو علىّ الدقاق رضى الله عنه : لها معارج ثلاثة :
أولها التقويم ؛ وهو تأديب النفس.
وثانيها الإقامة ؛ وهى تهذيب القلوب.
وثالثها الاستقامة ؛ وهى تقريب الأسرار.
سُئِل ِصِدِّيق الأمّة أبو بكر – رضى الله عنه – عن الاستقامة ، فقال: أنْ لا تشرك بالله شيئاً.
وقال عمر بن الخطاب: الاستقامة أنْ تستقيم على الأمر والنهى، ولا تروغ روغان الثعلب.
وقال عثمان بن عفان: {إسْتَقَامُوا} أىْ أخلصوا العملَ لله.
وقال علىّ بن أبى طالب وابن عباس: {اسْتَقَامُوا} أىْ أدّوا الفرائض.
وقال الحسن بن علىّ : {اسْتَقَامُوا} على أمر الله فعملوا بطاعته واجتنبوا معصيتَه.
وقال ابن رجب: والاستقامة هى سلوك الصراط المستقيم، وهى الدين القيّم مِن غير تعريج عنه يُمنةً ولا يُسرةً، ويشمل ذلك فعلَ الطاعات كلها الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها كذلك [ أى الظاهرة والباطنة ] .
مِن هنا يمكن القول أنّ الاستقامة تعنى التمسك بالدين كلّه والثبات عليه ..
لِذلك قال أحد العارفين – بعد أنْ عَرَّف الاستقامةَ بأنها السداد والإصابة فى النيات والأقوال والأعمال – قال بعدها: فالاستقامة كلمة جامعة، آخذة بمجامع الدين، وهى القيام بين يدى الله على حقيقة الصدق والوفاء .
قال أحد شيوخنا : أَعظَمُ الكرامة لُزُوم الاستقامة .
وقال مولانا الشيخ إسماعيل صادق العدوى :” لا كرامةَ تَعدل الاستقامة ” ؛ رغم أنّ حياته كانت كلها سلسلةً لا متناهيةً مِن الكرامات .
- ماذا عن حُكْم الاستقامة ؟
لقد أمر الله – عز وجل – نبيَّه وأتباعَه أنْ يلتزموا الاستقامةَ عقيدةً وشريعةً، هدياً ومنهجاً، وأنْ يجتنبوا الطغيانَ ويحذروا أهواءَ أولياء الشيطان ؛ قال سبحانه { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير } ..
قيل فى التفسير : يأمر الله تعالى رسولَه وعبادَه المؤمنين بالثبات والدوام على الاستقامة، وذلك أكبر العون على النصر على الأعداء ومخالفة الأضداد، وينهى عن الطغيان وهو البغى؛ فإنّه مصرعة حتى لو كان على مشرك، وأَعلَم أنّه تعالى بصيرٌ بأعمال العباد لا يغفل عن شيء، ولا يخفى عنه شيء.
قال ابن رجب : وفى قوله عز وجل { فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوه } إشارة إلى أنه لا بدّ مِن وجود تقصير فى الاستقامة المأمور بها ، فيُجْبَر ذلك بالاستغفار المقتضِى لِلتوبة والرجوع إلى الاستقامة، فهو كقول النبى – صلى الله عليه وسلم – لمعاذ { اتقِ الله حيثما كنتَ، وأَتْبِع السيئةَ الحسنةَ تمحها }، وقد أخبر النبى أنّ الناس لن يطيقوا الاستقامة حقَّ الاستقامة ؛ فقال حضرته { استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أنّ خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلاَّ مؤمِن } . - ماذا عن أهمية الاستقامة ؟
قال بعضهم : كن صاحبَ الاستقامة لا طالبَ الكرامة ؛ فإنّ نفسك متحرّكة فى طلب الكرامة ، وربّك يطالبك بالاستقامة ؛ فاعمل لمرضاة الرَّبّ لا لِطاعة رغبة النفس .
الاستقامة لِلحال بمنزلة الروح لِلبدن ؛ فكَمَا أنّ البدن إنْ خَلاَ عن الروح فهو ميت فكذلك الحال إنْ خَلاَ عن الاستقامة فهو فاسد.
وكَمَا أنّ حياة الأحوال بها فزيادة أعمال الزّاهدين – أيضاً – ونورها وزكاتها بها؛ فلا زكاةَ للعمل ولا صحّةَ بدون الاستقامة.
إذا استقام القلب استقامت الجوارح؛ فأصلُ الاستقامة استقامة القلب على التوحيد ، فمتى استقام القلب على معرفة الله وعلى خشيته وإجلاله ومهابته ومحبّته وإرادته ورجائه ودعائه والتّوكّل عليه والإعراض عَمَّا سواه استقامت الجوارح كلّها على طاعة الله؛ فإنّ القلب هو ملك الأعضاء، وهى جنوده، فإن استقام الملك استقامت جنوده ورعاياه .
وأَعظَمُ ما يراعَى استقامتُه بعد القلب مِن الجوارح اللّسانُ ؛ فإنّه ترجمان القلب والمعبِّر عنه . - مِن مظاهر الاستقامة :
- فعلُ الطاعات والاجتهادُ فيها ومجاهدةُ النفس عليها؛ لأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ، ومِن أجل ذلك قيل : الإيمان يزيد وينقص .
وأَهَمُّ ما يحافظ عليه العبد الصلوات الخمس وبقية الفرائض، مع الاستزادة والإكثار من النوافل ؛ فلا نوافلَ بدون الفرائض؛ قال الله عز وجل {وما تَقَرَّبَ إلىَّ عبدى بشىء أَحَبّ إلىَّ مما افترضتُه عليه، وما زال عبدى يتقرب إلىَّ بالنوافل حتى أُحِبَّه؛ فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذى يسمع به وبصرَه الذى يبصِر به ويَدَه التى يبطش بها ورِجلَه التى يمشى بها …} إلخ الحديث . - الاشتغال بالعِلم الشرعى وطلبه ؛ لأنّ به يُعرَف الله ويُعبَد ويُذْكَر ويُوَحَّد ويُحمَد ويُمَجَّد، وبه اهتدى إليه السالكون، ومِن طريقه وصل إليه الواصلون، ومِن بابه دخل القاصدون.. مذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وطلبه قُربة، وبذلُه صدقة، ومدارَسته تعدل بالصيام والقيام، والحاجة إليه أَعظَمُ منها إلى الشراب والطعام.
- الإخلاص فى العِلم والعمل ؛ فلا بُدّ مِن مجاهدة النفس على الإخلاص؛ لأنّه روح كلّ عبادة، وبه تستقيم النفس وتَصدق مع الله فى الأقوال والأعمال؛ قال تعالى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفا }.
- الدعاء؛ مِن مقويات الإيمان دعاء الله تعالى لِتحقيق الاستقامة والثبات عليها كَمَا كان النبى – صلى الله عليه وسلم – يَسأل رَبَّه الثباتَ على الدين ، وقد أمرنا بقراءة الفاتحة فى كلّ ركعة؛ وفيها نسأل الله تعالى فنقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم}.
- الإكثار مِن تلاوة القرآن وحِفظ ما تيسَّر منه ، وكذلك تدبُّره ، وقد جعل الله تعالى القرآنَ سبيلاً لِمَن أراد الاستقامةَ؛ فقال { *إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ * لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيم* } ، وقال سبحانه { إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرا }.
- الصحبة الصالحة ؛ لأنّ صحبة البطّالين وأهل المعاصي تُضعِف الاستقامة .. تأمَّلْ كيف أنّ الله تعالى بعد أنْ أمر بالاستقامة حَذَّر مِن الركون إلى أهل المعاصى؛ لأنّ هذا يؤثِّر على الاستقامة ؛ فقال تعالى { *فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَا تَرْكَنُوا إلَى الَذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّار* }.
- التوسط والاعتدال لا إفراط ولا غلوّ وتشديد؛ فإنّ النبى – صلى الله عليه وسلم – قال { لن يشادّ الدينَ أحدٌ إلاَّ غَلَبَه} ، وقال صلى الله عليه وسلم {هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُون } قالها ثلاثاً؛ والمتنطعون هم المغالون المجاوزون الحدود فى أقوالهم وأفعالهم.
- أمَّا الطُّرُق المعِينة على الاستقامة فهى : العبادات – التربية الأُسَرِيّة – محاسبة النفس – حضور مجالس العِلم والذكر والتفكر – تقديم النصيحة والتناصح.
- مِن ثمرات الاستقامة :
جعل الله سبحانه لِمَن آمنوا بدينه حقّاً واستقاموا عليه صدقاً فضائلَ عظيمةً ومنازلَ رفيعةً ؛ فقال سبحانه {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُون}، وتَنَزُّل الملائكة فى الحياة الدنيا ..
فمِن هذه الثمرات : تَنَزُّل الملائكة عليهم بالبشرى بالسرور والحبور عند الموت وفى القبر وعند البعث.
والبشرى بالجنة ، والولاية لأهل الاستقامة ، ومغفرة الذنوب ، وسعة الرزق وهناء العيش ؛ { وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقا } أىْ كثيراً ؛ فأينما كان الماء كان المال كَمَا قال عمر بن الخطاب، فالماء سِرّ الحياة.