قلائل من الناس الذين يحلمون ولديهم القدرة والإرادة العجيبة على تحقيق أحلامهم مهما كانت الظروف والتحديات. من هؤلاء الناس صديق العمر ورفيق رحلة صاحبة الجلالة، ليس فقط منذ اليوم الأول فى العمل بل منذ اليوم الأول الذى التحقنا فيه بقسم الصحافة آداب سوهاج عام 1981. يومها قال لى رفعت رشاد: انت ناوى بعد التخرج تشتغل فى الأخبار ولا الأهرام؟
ضحكت من أعماقى وأنا أرد: أهرام إيه وأخبار إيه ياجدع انت، خليك واقعى وبلاش تشطح فى أحلامك، فقال: لو لم تكن تحلم بأن تكون صحفياً وفى جريدة كبيرة فلماذا اخترت أن تدرس الصحافة؟، قلت: أحبها فقررت أن أدرسها أما حلم العمل فهو أمر لم أفكر فيه بعد، فقد تعودت أن أجعل لكل حادث حديث، فقال لى: لو عملت بهذا المنطق فأنا أؤكد لك أن المطاف سينتهى بك لأن تكون موظفاً حكومياً مع كل الاحترام والتقدير لكل موظفى الحكومة. فالحلم هو عنوان الحقيقة.
لذا لم يكن غريبا على رفعت رشاد أن يحلم ونحن لازلنا فى أولى صحافة بإصدار مجلة اسمها مجلة المصريين يشارك فى تحريرها كل زميلات وزملاء الدفعة. وظل يدور كالنحلة بيننا لتجميع المادة التحريرية وتوضيبها وتجهيزها وتنفيذها.. فكان من الطبيعى عندما تحول من مرحلة هواية الصحافة ودراستها إلى الاحتراف أن يتحول إلى كائن مهووس بإصدار الصحف والمجلات. أذكر منها على سبيل المثال صحف «الجورنال» و«الجماهير» و«العاصمة» وغيرها. وكان من الطبيعى أن يتوج كل ذلك بتوليه رئاسة أهم مجلة سياسية مصرية ألا وهى «آخر ساعة» العريقة، قبل أن يتفرغ للكتابة فى صحف ومجلات الدار وغيرها من الإصدارات الأخرى.
منذ شهرين تقريباً فاجأنى بنيته إصدار مطبوعة جديدة، قلت له تقصد: موقعا إليكترونيا؟ً فقال وهو يبتسم: لا أقصد جريدة ورقية!، قلت بلا تردد: يا رفعت اعمل معروف بلاش جنان، هل هناك من يغامر بإصدار صحيفة ورقية فى ظل تراجع معدلات قراءة الصحف الورقية وفى ظل الارتفاع الرهيب فى أسعار الورق وغيرها من مستلزمات إنتاج مثل هذه الجريدة.
فقال بكل ثقة: أنت بالذات تعرف حلمى القديم المتجدد بإصدار صحيفة كل موضوعاتها تدور حول عنصرين أساسيين هما السياسة والاقتصاد.
زادت دهشتى من كلامه وحاولت مجدداً بكل الطرق أن أثنيه عن هذا الحلم. لكن كعادته بدا مصمماً على تحقيق حلمه مجدداً.
كنت طوال فترة الإعداد للإصدار الجديد أشارك صديقى فى التفكير ولكن على استحياء، أقدم رجلاً وأؤخر الأخرى على أمل أن يتراجع صديقى عن هذا الحلم الذى لم يعد سهل التنفيذ فى الوقت الذى كان يجرى فيه برجليه الاثنين للأمام وبأقصى سرعة. اجتماعات وأفكار وعصف ذهنى وهو فى حماس شاب لايزال فى أولى صحافة يخبر زملاءه فى القسم بأنه سوف يصدر جريدة فى الكلية توزع على مستوى الجامعة..
وهكذا أصدر منذ عدة أيام العدد الأول من جريدة «حريات» وهو عنوان رفعت الأثير الذى صحبه فى كل الإصدارات التى كتب فيها. أعترف أن «حريات» كانت مفاجأة لى بكل المقاييس، من حيث الشكل والمضمون الذى ظهرت فيه عصارة سنين من خبرة صديقى وإخلاصه وعشقه للكلمة المطبوعة ولصناعة الصحف.
مرحباً بـ «حريات» المولود الجديد لصديقى والتى أثق أنها ستكون إضافة قوية للصحافة الورقية الراقية التى تراهن على ذلك الجمهور من القراء الذى يقاوم غزو السوشيال ميديا ولا يرضى عن الصحافة الورقية بديلا، وظنى أن نجاح «حريات» سيكون دافعاً لآخرين ممن لم يفقدوا إيمانهم برائحة الحبر بأن يسيروا على نفس الدرب لإعادة البريق للصحافة المطبوعة، والأمر ليس مستحيلاً بشرط أن يتحلى كل منهم بحماس صديقى الحالم دوماً والأهم من حلمه هو إرادته العجيبة وإصراره على تحقيقه.