الأمم المتحدة خضعت لمصالح الشركات الكبرى.. على حساب المجتمعات الريفية
المنظمة الدولية فشلت في مواجهة مشكلات الجوع والأزمات البيئية والصحية
“تحرير الجينات” يمنح الشركات العملاقة حق احتكار البذور والتحكم في الغذاء
نبوءة كيسنجر تتحقق: التحكم في الطعام والطاقة والمال .. للسيطرة على العالم
وجبة من الحشرات لتلاميذ هولندا .. وألمانيا تحد من استهلاك اللحوم!
تقرير يكتبه
عبد المنعم السلموني
في عصر العولمة، يقوم نمط الأغذية الزراعية على سياسات تجارية غير عادلة، تساعد على الزراعة الأحادية (إنتاج نوع واحد من المحاصيل، له مميزات وفوائد تجارية متعددة) وانعدام الأمن الغذائي وكذلك تدهور التربة وتضرر البيئة. وهذا النموذج أيضًا مسؤول عن زيادة معدلات المرض، والنظم الغذائية التي تفتقر للعناصر الضرورية للصحة، وتضييق نطاق المحاصيل، ونقص المياه، وتلوث سطح الأرض بالمواد الكيميائية، وزيادة مديونية المزارعين، وتقويض وتدمير المجتمعات المحلية، والقضاء على التنوع البيولوجي.
يعتمد ذلك على نهج سياسي يعطي الأولوية للتوسع العمراني والأسواق العالمية وسلاسل التوريد الطويلة ومدخلات الملكية الخارجية والأغذية عالية التجهيز ودعم (الشركات) على حساب المجتمعات الريفية والشركات الصغيرة وأصحاب الحيازات المحدودة والأسواق المحلية، مع نقص سلاسل العرض وعدم تنوع المحاصيل الزراعية البيئية، والسيادة الغذائية.
يشير تقرير، كتبه كولين تودونتر على موقع جلوبال ريسيرش، إلى أن هناك قضايا بيئية واجتماعية وصحية ضخمة تنبع من كمية الطعام التي يتم إنتاجها واستهلاكها حاليًا وأن هناك حاجة إلى نقلة نوعية. لذلك، وربما كان بعض المتفائلين يأملون في إيجاد حلول حقيقية لهذه المشاكل خلال النسخة الثانية من قمة الأمم المتحدة لنظم الغذاء (UNFSS) التي عقدت مؤخرًا في روما.
زعمت القمة أنها تهدف لتقديم أحدث المناهج العلمية، وإطلاق التزامات جديدة عبر تحالفات العمل وتعبئة التمويل والشراكات الجديدة. وتدور “تحالفات العمل” هذه حول تنفيذ “تحول غذائي” يكون أكثر استدامة وكفاءة وصديقًا للبيئة.
تأسست قمة الأمم المتحدة لنظم الغذاء على أساس شراكة بين الأمم المتحدة والمنتدى الاقتصادي العالمي (WEF)، ومع ذلك، تتأثر هذه القمة بالجهات الفاعلة من الشركات، وتفتقر إلى الشفافية والمساءلة وتحويل الطاقة والموارد المالية بعيدًا عن الحلول الحقيقية اللازمة لمعالجة مظاهر الجوع، والأزمات البيئية والصحية.
ووفقًا لمقال نُشر مؤخرًا على موقعThe Canary ، تضمنت المبادرات الرئيسية عددًا من أصحاب المصلحة المتعددين في قمة المنتدى الاقتصادي العالمي 2023، ومن بينهم المجموعة الاستشارية للبحوث الزراعية الدولية، ومنظمة إيتEAT، وهي منظمة غير ربحية هدفها تغيير النظام الغذائي العالمي على أساس علمي سليم، ومجلس الأعمال العالمي للتنمية المستدامة والتحالف من أجل ثورة خضراء في إفريقيا.
كان هناك وجود قوي وبارز في القمة لشركات الأغذية الزراعية العالمية الشهيرة، ومنها كوكاكولا ودانون وكيلوجز ونسلة وبيبسي كولا وغيرها، إلى جانب مؤسسات مالية ومصرفية مثل بنك روبابنك الهولندي ومؤسسة ماستركارد ومؤسسة بيل وميليندا جيتس.
من خلال “شراكته الإستراتيجية” مع الأمم المتحدة، يرى المنتدى الاقتصادي العالمي أن مبادرة أصحاب المصلحة المتعددين MSI تمثل مفتاحًا لتحقيق رؤيته الخاصة بعملية “إعادة الضبط الكبيرة”، للتحول الغذائي. وكما هو واضح، تضم القمة تحالفًا قويًا من الشركات العالمية والمؤسسات المؤثرة والدول الغنية. ويهدف أصحاب هذه المصالح إلى ضمان تكريس أكبر لنفوذ الشركات والأعمال التجارية الزراعية على المؤسسات العامة.
كتبت هانا شارلاند، في مقالها بموقع The Canary: ” تمنح الأمم المتحدة عن عمد الشركات التي ترعى تدمير الكوكب مقاعد رئيسية على طاولة المناقشات. هذه الشركات هي التي تشكل بالفعل حالة أنظمة الغذاء العالمية “.
وتخلص الكاتبة إلى أن الأزمة العالمية المتنامية لا يمكن أن يحلها من صنعوها في نظام الشركات الرأسمالية.
خلال مؤتمر صحفي في 17 يوليو 2023، عقده ممثلون عن منظمة “الاستجابة الشعبية المستقلة لـ UNFSS” -إحدى منظمات المجتمع المدني التي تضم أيضًا منظمات شعوب السكان الأصليين وتدافع عن الحق في الطعام –تم تسليط الضوء على الإجراءات العاجلة المطلوبة لمعالجة الجوع العالمي. وقد صدر الرد على القمة في بيان لممثلي حركات العدالة الغذائية، ومنظمات صغار منتجي الأغذية والشعوب الأصلية.
استنكر البيان نهج الامم المتحدة. وقال سول فيسنتي Saúl Vicente من مجلس المعاهدات الهندي الدولي إن منظمي القمة يصورون مشروعهم المؤسسي والصناعي على أنه “تحول”. ويروجون له!
وتدعو الحركات والمنظمات التي تعارض القمة إلى تحول سريع -بعيدًا عن النماذج الصناعية التي تحركها مصالح الشركات -نحو أنظمة غذائية متنوعة بيولوجيًا وبيئة زراعية يقودها المجتمع وتعطي الأولوية للمصلحة العامة على جني الأرباح. وهذا يستلزم ضمان حق الشعوب في الوصول إلى الأراضي والموارد الإنتاجية والتحكم فيها مع تعزيز الإنتاج الزراعي البيئي والاعتماد على بذور الفلاحين.
ويضيف الرد على القمة: “رغم الاعتراف بفشل النظم الغذائية الصناعية على كثير من الجبهات، فإن الشركات التجارية الزراعية والغذائية تواصل السعي للحفاظ على سيطرتها. إنهم ينشرون الرقمنة والذكاء الاصطناعي وتقنيات المعلومات والاتصالات الأخرى للترويج لموجة جديدة من تبعية المزارعين أو تهجيرهم، والاستيلاء على الموارد، واستخراج الثروة، واستغلال العمالة، وإعادة هيكلة النظم الغذائية نحو تركيز أكبر للسلطة وعولمة أكثر من أي وقت مضى لسلاسل القيمة.
يقول شلمالي جوتال، من جمعية “التركيز على الجنوب العالمي”:
“لقد انصاعت الأمم المتحدة لنفوذ المنتدى الاقتصادي العالمي والشركات العملاقة غير الخاضعة للمساءلة وشركات البيانات الضخمة، والتي ليس لديها وقت للممارسات الديمقراطية”.
كما أصدرت شبكة المعلومات والعمل بشأن أولوية الغذاء الدولية FIAN International تقريرًا بالتوازي مع بيان من حركة الاستجابة الشعبية المستقلة. التقرير يحمل عنوان “تحوُّل النظم الغذائية .. إلى أين؟” وهو يدعو إلى إصلاح عاجل لهيكل إدارة الغذاء العالمي لضمان اتخاذ القرار الذي يعطي الأولوية للصالح العام والحق في الغذاء للجميع.
تقول صوفيا مونسالف، الأمين العام للشبكة: “العقبة الرئيسية أمام اتخاذ إجراءات فعالة نحو أنظمة غذائية زراعية محلية وإيكولوجية أكثر مرونة وتنوعًا هي المصالح الاقتصادية لمن يتسابقون للاستفادة من النظم الغذائية الصناعية التي تقودها الشركات.”
بينما ينام أكثر من 800 مليون شخص جائعين في ظل نظام الغذاء الحالي، يستمر سُعار هذه الشركات ومستثمريها الأثرياء لجني المزيد من الربح والسيطرة.
لقد ضمنت هذه الشركات سياسة هيمنة ذاتية متأصلة بعمق بين صانعي القرار. ولأسباب وجيهة، تدعو منظمة الاستجابة الشعبية المستقلة لـ UNFSS إلى حملة لمواجهة القوة التي تمارسها مصالح الشركات الكبرى:
قد يبدو هذا أمرًا صعبًا، خصوصًا بالنظر إلى تمويل قطاع الأغذية والزراعة، الذي تطور مع أجندة الليبرالية الجديدة والأموال الشاملة للاقتصاد العالمي. ومعنى ذلك أن الشركات القوية -مثل بلاك روك BlackRock الأمريكية التي تمتلك أسهمًا في كبرى شركات الأعمال الغذائية والزراعية العالمية -لديها الكثير من السطوة على ترسيخ النظام الحالي بشكل أكبر.
وبالعودة إلى سبعينيات القرن الماضي، نجد وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، هنري كيسنجر قد حدد الطعام (بالإضافة إلى الطاقة) كآلية رئيسية يمكن استخدامها لإخضاع البشرية المتمردة، حيث قال:
“من يتحكم في الإمدادات الغذائية يسيطر على الناس؛ ومن يتحكم في الطاقة يمكنه السيطرة على قارات بأكملها؛ ومن يتحكم في المال يمكنه التحكم في العالم “.
وذكر تقرير آخر، كتبه ستيفن كارجانوفيتش على موقع جلوبال ريسيرش، أن السيطرة على الأموال بدأت تفلت من أيدي الحكومة الأمريكية وشركاتها، ويبدو أن هيمنتهم على إمدادات الطاقة العالمية تتبخر أيضًا، لكنهم لم يستسلموا لورقتهم الرابحة وهي القدرة على التحكم في الموارد الغذائية في العالم وتقليصها بشكل كارثي.
ووفقًا لكلمته، في مؤتمر الغذاء العالمي لعام 1974 بروما، كشف كيسنجر النقاب عن خطة كيفية استخدام الطعام لإعدام سكان العالم وابتزاز الحكومات لتنفيذ إرادة البيت الأبيض. ويرى التقرير أنه قد تمت صياغة الكلمة بحذر، وكتابتها بلغة غامضة تمامًاوموغلة في التخصص، لا يفهمها سوى أقل المراقبين المنتبهين، لكنها ظلت غامضة بالنسبة لمن يتم التفكير في تنظيم عملية إبادة جماعية لهم.
منذ ذلك الحين، وبفضل مثابرتهم المميزة، عمل أصدقاء كيسنجر وموجهوه لتحقيق ذلك، ألا وهو أزمة الغذاء العالمية التي يجري الإعداد لها.
ويتضح هذا كثيرًا من التشريع الذي اقترحته المفوضية الأوروبية قبل أيام قليلة. وقد تم الإبلاغ عن تفاصيل ذلك من قبل منظمة سفينة نوحArche Noah، ومقرها بروكسل، وهي منظمة غير حكومية حقيقية للتغيير، وليست عملية احتيال يمولها جورج سوروس. وهي تدافع بقوة عن المصلحة العامة.
يجب على العالم، الذي يغط في النوم، أن ينتبه. اللدغة القاتلة للحزمة التشريعية المقترحة من الاتحاد الأوروبي والموصوفة على أنها القلق حول “الاستخدام المستدام للموارد الطبيعية”. لكن هذه العبارة المزدوجة ليست أكثر من كلمة مضللة. إنها ترمز إلى السياسة الجديدة “لوائح الاتحاد الأوروبي للبذور” والمبادرة التشريعية المصاحبة لها لتحرير “الهندسة الوراثية الجديدة”.
“نشعر بالفزع من هذا الهجوم على بذورنا وتنوع المحاصيل في أوروبا”، هكذا علقت ماجدلينا بريلر Magdalena Prieler مسؤولة السياسة في سفينة نوح Arche Noah. وتشرح: “بهذه المقترحات تكتسب الشركات العالمية سيطرة كاملة على طعامنا. يجب على وزراء الزراعة والبرلمان الأوروبي العمل على حماية المزارعين والمستهلكين والتنوع البيولوجي “.
إنهم يتصرفون بالتأكيد، لكن في الاتجاه المعاكس تمامًا. هناك فرصة ضئيلة لعدم اعتماد التشريع الأولي المقترح من قبل البرلمان الأوروبي الذي تم شراؤه ودفع تكلفته لأن المصالح الاقتصادية القوية والمتماسكة تتكتل وراءه. يتمثل أحد الآثار الرئيسية المقصودة في إعادة التصنيف، أي نقل للبذور الطبيعية خارج نطاق خاص ضيق للغاية على أنه “تسويق”.
وإعادة التصنيف تفتح الباب تلقائيًا أمام التنظيم المنفلت والذي يتسبب في الإساءة لسمعة الاتحاد الأوروبي، ومن ذلك مدى التقوس المسموح به لثمرة الخيار التي يمكن بيعها في محلات السوبر ماركت.
إن الحد من استخدام البذور الطبيعية القابلة للتكاثر اللامتناهي واستعمال أصناف البذور المعدلة وراثيًا بدلًا منها، والتي لا تصلح للزراعة سوى مرة واحدة -بمعنى أن البذور الناتجة عن زراعتها لا تصلح للزراعة مرة أخرى، وبالتالي يضطر الفلاح لشراء بذور جديدة من الشركة المنتجة -يعد أمرًا خطيرًا مميتًا. هذا سجعل منتجي الأغذية يعتمدون بشكل مطلق على عدد صغير من الشركات العابرة للقوميات والتي تحتكر هذه البذور، وبالتالي تتحكم في الغذاء.
ولا شك أن مديري هذه الشركات يختلطون مع حكام العولمة بالمنتدى الاقتصادي العالمي وأمثاله. هناك، يتم وضع خطط متعددة، ومنها ما إذا كان يُسمح لملايين البشر في جميع أنحاء العالم بتناول الطعام وكميته وماذا يأكلون!!
ويكفي مثالان لإثبات مدى وشمول تلك السيطرة والإصرار المجنون على إعادة هيكلة أنماط حياة الملايين بشكل تعسفي. في هولندا، أصبحت وجبات الغداء المدرسية بالفعل عبارة عن ديدان الطحين والحشرات للتلاميذ، بحجة زائفة تزعم إنقاذ الكوكب من الاحتباس الحراري.
ويقول ستيفن كرجانوفيتش، كاتب التقرير: الآن، ثبت أن نوايا أنصار العولمة “الفاسدة” تدعمها الخطط التي كشفوا عنها في ألمانيا. فمن المقرر إلغاء اللحوم في هذه الدولة التي تعد أكبر مستهلك للبروتين في أوروبا وذلك بتقنين تخفيض الاستهلاك الشخصي اليومي المسموح به إلى عشرة جرامات فقط. وتعتبر ألمانيا أكثر دول أوروبا التزامًا بتنفيذ آليات العولمة، لذا سيكون من المهم للغاية أن نرى مدى نجاح تنفيذ هذا البرنامج التجريبي الصارم.
ولكن المثير للرعب هو الأعمال التي ترمي للسيطرة المطلقة على المحاصيل الضرورية للاستهلاك البشري والحيواني وإعادة هندستها وراثيًا.
وبناءً على ذلك، بموجب مشروع قانون المفوضية الأوروبية، سيتم الشروع في عمليتين متوازيتين. لن يُسمح للمزارعين بتبادل بذورهم إلا بكميات صغيرة وفي ظل ظروف منظمة بإحكام. ولن يكون بيع البذور الطبيعية ممكنًا من الآن فصاعدًا. ولن يُسمح لبنوك الجينات العامة والمجموعات الخاصة ومبادرات البذور بعد الآن بإعطاء بذورها للمزارعين.