أشعر بالخجل الحقيقى عندما أقرأ سير بعض صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ويزداد خجلى كلما قرأت كذلك عن هؤلاء النسوة اللائى عرفن قدر الرسول الكريم ودللن على ذلك بأفعال سجلها تاريخ البشرية بأحرف من نور. نعم كلنا نحب رسول الله لكن هؤلاء برهنوا على هذا الحب وأكدوا أنه ليس مجرد شعارات جوفاء يرددها أغلبنا إلا من رحم ربى.
من هذه السير العطرة سيرة السيدة نسيبة بنت كعب أو أم عمارة كما اشتهرت.كان دورها فى غزوة أحد سقيا الماء، لكن حدث انكشف المسلمون بعد مخالفة أمر رسول الله وترك الرماة مواقعهم ظنًا منهم أن المعركة انتهت وأن النصر دان لهم، فتحولت المعركة للنقيض وهجم الكفار على المسلمين من الخلف، فإذا بأم عمارة تمسك سيفًا لتدافع عن رسول الله الذى وصف المشهد قائلًا فى معنى الحديث: أنظر عن يمينى فلا أرى سوى أم عمارة وأنظر عن شمالى فلا أرى سوى أم عمارة.
كان لأم عمارة ولد آخر هو سيدنا عبدالله بن زيد الذى وقع فى أسر مسيلمة الكذاب مدعى النبوّة فجاء به وسأله: تشهد أنى رسول الله؟ فأجابه قائلًا: لا أسمع، فرفع الكذاب صوته معتقداً أن عبدالله بن زيد لم يسمع فعلًا، فقال له مكررًا السؤال: تشهد أنى رسول الله؟ فعاد عبدالله يقول لا أسمع، وهنا فهم مسيلمة الكذاب أن عبدالله يهزأ منه فلما أجاب نفس الإجابة فى المرة الثالثة قطع يده اليمنى ثم عاد ليسأله: ما رأيك الآن أتشهد أنى رسول الله؟ فقال عبدالله:لا أسمع، فقطع يده اليمنى ثم سأله: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ فقال:أشهد فقتله، فلما جاء الخبر لأمه قالت كلمة عجيبة: لهذا اليوم أرضعته وعند الله احتسبته، لقد ربيته على حب النبى (صلى الله عليه وسلم) الذى قال لنا الله عنه فى كتابه المبين: النبى أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
أعترف أننى لم أفهم المعنى الحقيقى لهذه الآية إلا عندما سمعت قصة أم عمارة. تخيل الثبات وهى تسمع خبر استشهاد ابنها وهو يرفض أن يسمع حتى سؤال مسيلمة ولا أن يشهد له بالرسالة ولو على سبيل حيلة المضطر لذلك ولو شكليًا لينقذ نفسه من القتل مع احتفاظه بإيمانه بالله وبرسوله فى قلبه.
ثم هذه المرأة التى ذهب زوجها وابنها وأبوها وكذلك أخوها فى بعض الروايات للمشاركة فى غزوة أحد، وعندما أشيع أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قتل خرجت من بيتها مهرولة لتطمئن بنفسها على الرسول وكلما قابلت صحابى عائد من المعركة تسأله عن رسول الله فيقول لها أحدهم زوجك قُتل، فتسأل: وماذا عن محمد (صلى الله عليه وسلم)؟ فيقال لها ابنك قُتل فتسأل عن الرسول، وهكذا كان رد فعلها عندما عرفت باستشهاد والدها وشقيقها، ولم تهدأ إلا عندما وجدت الرسول أمامها فقالت تلك العبارة الخالدة: كل مصيبة دونك يا رسول الله جلل، أى صغيرة! تخيلوا يكون هذا رد فعل امرأة يموت لها أهم أربعة رجال فى دنياها فى معركة واحدة وفى يوم واحد وهى كل همها أن تطمئن على سلامة رسول الله؟!
يا لشدة خجلى منك يا رسول الله وأنا أدّعى حبك ليل نهار بينما جل أعمالى يكذّب هذا الإدعاء، فأين أنا من هؤلاء الذين فهموا قولك فى معنى الحديث «والله والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أقرب له من أهله وماله وولده ونفسه التى بين جنبيه»؟!
رحماك يا ربى ولطفك.
Hisham.moubarak.63@gmail.com