يوما بعد يوم تثبت المقاومة فى غزة أنها قادرة على الصمود، وعلى أن تكبد إسرائيل خسائر فادحة فى الأرواح والعتاد، وتلاحقها إعلاميا، فتكشف أكاذيبها وتفسد ادعاءاتها، رغم تفوق الآلة الحربية والإعلامية لإسرائيل، والدعم الغربي غير المحدود والمجاني، مقابل الحصار الصارم على المقاومة، الذى يقطع عنها أي إمدادات عسكرية ولوجستية، من الرصاصة إلى شربة الماء.
هذا الصمود الأسطورى كشف الكثير من الحقائق التى لم نكن نراها، فالمقاومة لا تواجه إسرائيل فى الحقيقة، وإنما تواجه الغرب الأوروبى ـ الأمريكى الذى احتشد مع إسرائيل فى حربها المتوحشة، ويصر على أن يعطيها غطاء دينيا، ليجعل منها حربا صليبية جديدة، وليبرر لنفسه السقوط الأخلاقى المريع، الذى هوى به إلى قاع الإنسانية البدائية، فصار يحرض على الإبادة الجماعية، وتدمير الأهداف المدنية، المدارس والمستشفيات والعمارات السكنية، ويغض الطرف عن مذابح الأطفال والنساء والمدنيين، ويرفض بعنصرية مقيتة وقف إطلاق النار.
صحيح أن الشعوب الغربية، أو قطاعات منها، تتظاهر اعتراضا على البربرية الحديثة التى تراها على الشاشات، لكن الحكومات صارت أكثر وحشية فى دعمها للعدوان، وهي ترى أجساد البشر ورؤوس الأطفال تتطاير، والمرضى يجبرون على مغادرة المستشفيات ليموتوا فى الشوارع، وجثث الموتى تأكلها الكلاب الضالة، كأنما أريد لغزة أن تفضح الحضارة الغربية البائسة، وتكتب نهاية هذا العالم المنافق، الذى استحدث منظمات وقوانين وقرارات للسلام، ولضمان حقوق الشعوب التى تقاتل من أجل حريتها، ثم هاهو يتجاهل كل ذلك من أجل دولة مارقة مدللة، ترى نفسها فوق القوانين والقرارات الدولية.
لقد قتلت إسرائيل فى غزة آلاف المدنيين، منهم مسيحيون أبرياء، ودمرت ثلاث كنائس، إحداها تعد ثالث أقدم كنيسة فى العالم، وقصفت مستشفى المعمدان، لكن المسئولين الغربيين لا يتحدثون عن ذلك، بينما كانوا يحصون ضحايا “داعش” المسيحيين فى العراق فردا فردا، ويجعلون من أي عدوان يقع على كنيسة فى أية بقعة من العالم العنوان الرئيسى لإعلامهم، ويتحدثون عن الإبادة والتهجير والهمجية والتطرف، أما مسيحيو غزة فلا قيمة لهم، ولو أن كنيسة واحدة أصابها حجر على يد المقاومة، ولو بطريق الخطأ، لرأينا الغرب كله يستنكر، لكن لأن الفاعل هو إسرائيل فالأمر لا يستحق الاهتمام.
إنها حقيقة الغرب المنافق، الذى يصف المقاومة بالإرهاب، رغم أنها تستهدف الجيش فقط، وتدافع عن شعبها وأرضها ومقدساتها فى مواجهة الاحتلال، بينما إسرائيل التى تقصف المدنيين، وتقتل عائلات كاملة بصاروخ واحد، وتسقط قنابلها على موظفى ومدارس ومخازن الأمم المتحدة، لا توصف بالإرهاب.
هذا الغرب المتآمر يضحى حتى بالمسيحيين الفلسطينيين لصالح إسرائيل، ثم يزعم أنه مسيحي، والواقع أنه لا يوظف المسيحية إلا إذا كان فى مواجهة “داعش” وأمثالها من المنظمات الإرهابية المنحرفة، التى صنعها ونسبها زورا إلى الإسلام، أما ما دون ذلك فهو مستعد لأن يدوس على مقدساته من أجل مصالحه، والمسيحية الوحيدة التى يتبناها اليوم هى المسيحية الصهيونية، بروتستانتية أو إنجليكانية.
وبعد أن تضع الحرب أوزارها سوف تطرأ تغييرات عديدة على المستويين الإقليمى والعالمى يقينا، ولن يكون العالم كما كان قبل طوفان الأقصى فى السابع من أكتوبر الماضى، وأول الضحايا سيكون بنيامين نتنياهو وحكومته، الذين سيطاح بهم، وتنتظرهم لجنة تحقيق شبيهة بلجنة “أجرانات” التى تشكلت لجولدا مائير وأعضاء حكومتها بعد هزيمتهم فى 1973، فكتبت نهايتهم السياسية.
ولهذا السبب يصر نتنياهو بدعم أمريكي على إطالة أمد الحرب، والإمعان فى ارتكاب أبشع المجازر وتجويع الفلسطينيين، على أمل أن يتمردوا على المقاومة، ويحملوها مسئولية ما أصابهم، فيخرج منتصرا، وتتراجع شعبية المقاومة، بما يتيح لإسرائيل اصطناع سلطة تابعة لها فى غزة، توافق على ما تمليه من شروط، لكن هذه الخطة أثبتت فشلها إلى الآن، فالشعب الفلسطينى ملتف حول المقاومة، وهو ما يؤكد أنها ستخرج منتصرة، وهذا الانتصار سيغير قواعد اللعبة، لأن إسرائيل وحلفاءها سيجدون أمامهم محاورا جديدا، له شروط مختلفة وأسلوب مختلف.
ولن يثق الشعب الفلسطينى مرة أخرى فى قرارات دولية، ولا فى وسيط أمريكى أو مبعوث أوروبي، بعد أن رأى ما رأى من التنكر له والتخلى عنه، ولهذا سيكون للتفاوض شكل آخر، أما إذا بقيت إسرائيل فى غزة، أو تركت قوات هناك لحماية حكومتها المصطنعة، فإن غزة ستتحول إلى حرب استنزاف طويلة المدى، تنتهى معها موجات الهجرة إلى إسرائيل، لتبدأ موجات الهجرة العكسية من إسرائيل.
لكن أكثر ما تخشاه أمريكا وحلفاؤها، أن تتحول المقاومة الفلسطينية إلى نموذج، فتوقظ نزعة الكراهية للسياسات الغربية، وتحيى روح الجهاد لدى المسلمين، وتعيد الثقة إليهم فى إمكانية الانتصار، وإذا انتصرت المقاومة فى غزة، وانتصر الروس فى أوكرانيا، فسوف يبدأ عصر جديد، بتحالفات جديدة.
لقد أعاد طوفان الأقصى القضية الفلسطينية إلى الوعي العام للمسلمين، وهناك ضغط متزايد فى العالم الإسلامى لتحقيق قدر أكبر من التضامن والتعاون والتحالف بين دوله، بعد أن توحد الغرب مع إسرائيل، وبالتوازى سوف تشهد المرحلة القادمة تراجعا كبيرا للتيار العلمانى التغريبى التطبيعى، المعادى للتراث الإسلامى، نتيجة للتخاذل الذى أبداه هذا التيار أثناء الحرب، بينما كانت المقاومة تستمد قوتها من ذلك التراث، فى مواجهة تمسك الغرب بالرؤية الدينية فى تضامنه مع إسرائيل.
يضاف إلى ذلك أن الحرب على غزة جذبت جماعات من الغربيين، وحتى اليهود، إلى الإسلام ، وبدأ الكثيرون يسعون إلى معرفة هذا الدين، وبعضهم اعتنقه، كما ظهر فى عدد من الفيديوهات التى تحدث أصحابها عن حرب غزة كحافز لهم على اكتشاف الإسلام، ذلك الدين الذى صنع شعبا يصمد فى وجه الدبابات والقنابل، ويستقبل الموت بالزغاريد، وبالصبر والثبات والإيمان، وصنع أطفالا لايعرفون الخوف، يفرحون بالشهادة ويحتفون بالشهيد، ويتلون القرآن ويرددون كلمات الحمد والتكبير وسط الدمار والخراب.