بعيدا عن الكلام الدبلوماسي المنمق، كان الموقف الأمريكى ـ وما زال ـ واضحا جليا من الحرب على غزة، فهى الداعم الأول والأهم لإسرائيل بالسلاح والعتاد والمقاتلين، وبالفيتو فى مجلس الأمن، وهى المحرضة وواضعة الخطط وصاحبة الضوء الأخضر، لكنها أمام الميكروفونات وفى البيانات الرسمية تعطى من طرف اللسان حلاوة، وتوجه رسائل مخادعة، لتخدير المشاعر الغاضبة، حتى تمر الطعنة بسلام، استعدادا لطعنات أخرى فى جسد الموهومين، المنتظرين لوعود لن تأتى أبدا.
فى جلسة مجلس الأمن الأخيرة أكد نائب المندوبة الأمريكية أن بلاده ترفض دعوات وقف إطلاق النار، وتأكدت أن إسرائيل لا تستهدف قتل المدنيين، وما يحدث هو فقط تدمير لقوة حماس العسكرية، مع أن العالم كله يسمع ويرى ما تعرضه الشاشات من قصف مروع للمنازل والمستشفيات والمدارس ومراكز الإيواء، واستهداف المدنيين العزل، بينما يقف المقاتلون الإسرائيليون عاجزين مرعوبين أمام المقاوم الفلسطينى، الذى يفجر دباباتهم من المسافة صفر.
أمريكا تكذب كذبا صريحا، وتعرف أن الشعوب لاتصدق كذبها، لكنها تعتمد على قوتها الطاغية، القادرة على المنح والمنع، فتمرر الكذب، ثم تأتى تصريحات السياسيين لتجميل المواقف القبيحة، فيقولون إن الرئيس بايدن ضد استهداف المدنيين، وما زال يطلب من نتنياهو اتخاذ الاحتياطات لتجنب قتل المدنيين ما أمكن، ويعمل على إيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة، والتوصل إلى هدنة إنسانية مؤقتة لإطلاق الرهائن، وإدارته تقوم بجهود دبلوماسية مكثفة على أعلى المستويات لإنقاذ الأرواح ووضع اللبنة الأساسية لبناء السلام الدائم، وهذا كله ـ كما ترى ـ مجرد لغو كلام لايعنى شيئا، فالحقيقة أن أمريكا ضالعة فى الحرب، ويدها ملطخة بالدم الفلسطينى.
الإدارة الأمريكية تتحدث بلسانين، ورسائلها المخادعة واضحة وضوح الشمس، فالرئيس بايدن ضد وقف إطلاق النار، لكنه يؤيد الهدن الإنسانية المؤقتة، ما يعنى وقف القتل مؤقتا، أما القتل فهو مقبول عنده من حيث المبدأ، والرئيس بايدن يطلب من نتنياهو تجنب قتل المدنيين ما أمكن، لكنه يصمت أمام قصف الأهداف المدنية، ويكافئه بالفيتو، وبمزيد من الدعم المادى والمعنوى، على قتل الأطفال والنساء والصحفيين.
ويصر كيربى مسئول الاتصال الإستراتيجى بالبيت الأبيض على أن يبيع لنا السراب نفسه الذى باعه سابقوه، فيقول إن الرئيس بايدن لا يزال يؤمن بحل الدولتين، لكن ما حصل يوم 7 اكتوبر جعل هذا الحل بعيد المنال، وبالطبع ليس لديه دليل واحد على صدق ما يقول، فقد أيدت أمريكا قرارات إسرائيل التى قوضت حل الدولتين، ومنها قرارضم القدس، التى نقلت سفارتها إليها، وتبعها بعض حلفائها، وقرار توسيع الاستيطان الذى تدعمه بالمال والمهاجرين.
أمريكا تتلاعب بعقول العرب، تترك نتنياهو يتحدث عن الوطن البديل، وتوطين الفلسطينيين فى سيناء، ثم تلوح بحل الدولتين، وتدعى أن الفلسطينيين هم الذين يرفضونه، متجاهلة أن إسرائيل هى التى عملت جاهدة ـ وما زالت تعمل ـ على تغيير الواقع الجغرافى والديموجرافى والسياسى، لتجعل حل الدولتين مستحيلا، وترفض القرارات الدولية والمبادرات العربية ذات الصلة.
وتقول أمريكا إنها لا تؤيد إعادة احتلال إسرائيل لغزة، وترفض الانتقاص من مساحتها، أو إنشاء منطقة عازلة فى شمالها، وترفض التهجير القسرى لأهلها إلى سيناء، لكنها تلزم الصمت التام وهي ترى إسرائيل ترتكب كل هذه الأفعال المرفوضة، فتقوم بدفع الفلسطينيين دفعا من الشمال والشرق إلى الحدود المصرية، وبالتحديد إلى رفح، أملا فى أن يصير التهجير والتوطين واقعا لا مفر منه، حتى تتسلم غزة كاملة، فارغة من البشر والحجر، وهذا الصمت الأمريكى ليس إلا دليلا على الرضا.
وقد اعتاد نتنياهو بغروره وحماقاته أن يكشف ما يخبئه الرئيس الأمريكى تحت لسانه، فيقول إن “بايدن يؤيد خطتنا للقضاء على حماس، وخطتنا تتطلب عدة أشهر”، فى حين تقول الإدارة الأمريكية إن بايدن طلب من الإسرائيليين تحديد جدول زمنى لإنهاء الحرب مع نهاية العام، ويتصور هؤلاء وهؤلاء إن الضغط العسكرى الإجرامى على غزة سيؤدى حتما إلى استسلام المقاومة، ولا يدركون معنى الجملة التى يرددها أبو عبيدة، والتى صارت علامة على المقاومة الباسلة : ” وإنه لجهاد، نصر أو استشهاد”، ويتصورون أن القضاء على حماس سيقضى على القضية الفلسطينية، ولا يدركون أن هذه قضية لن تموت، كانت موجودة قبل حماس، وستبقى بعد حماس، وكانت موجودة مع فتح، وظلت قائمة بعد فتح، هي قضية أمة يقيض الله لها دوما من ينصرها ويرفع رايتها، مادامت قلوبها معلقة به سبحانه وتعالى، ولن تكون حماس أو غيرها أحب إلى الله من رسوله الكريم الذى قال فيه :” أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ؟ “.
ويذهب الغرور بالإسرائيليين إلى مناقشة ترتيبات الأوضاع فى غزة بعد الحرب مع الأمريكيين، كأنهم ضمنوا النصر، ويلوحون إلى إمكانية بقاء قوات إسرائيلية فى القطاع، واستدعاء السلطة الفلسطينية لتبسط سيطرتها عليه، وهو فخ خبيث يضع السلطة فى موضع الحارس على أمن إسرائيل، بحكم اتفاقات التنسيق الأمنى بينهما، ومن ثم يكون الصدام حتميا بين السلطة وفصائل المقاومة، وتتحول الحرب إلى فلسطينية / فلسطينية، لذلك يجب أن ينتبه الطرفان إلى خطورة ما يحاك لهما، ولا يتركان للصهاينة والأمريكان ثغرة ينفذون منها إليهما.
لو كان هؤلاء يعتدون بالسلطة حقا لالتزموا بالاتفاقات المبرمة معها، ولتركوها تمارس اختصاصاتها، وأوقفوا الاستيطان، والاعتداءات اليومية على المسجد الأقصى، وهدم الأحياء السكنية، والاستيلاء على المنازل والأراضى وطرد أهلها، وغير ذلك من الجرائم التى شلت يد السلطة، ووضعتها فى مواقف حرجة أمام شعبها.