كان كلما شعر بالعجز أو الإحباط يذهب الى ذلك الحقل القديم الذي تيبس عطشا فيجلس تحت ظل الشجرة الكبيرة والوحيدة في الحقل، فهي كل مابقي من أشجاره
الباسقة وازهاره اليانعة،
فقد منعت السماء غيثها عنهم منذ سنوات وجفت السواقي وتفطرت الأرض حتى شقت الأخاديد طريقها عميقا في جسدها .
لم تحتمل الأزهار الرقيقة قسوة العطش ذبلت واحنت رؤوسها وداستها الأقدام ونثرت فتاتها الرياح الحارقة.
إلا شجرة الحقل الكبيرة ظلت تنشر ظلها يمينا وشمالا رغم الجفاف،
وقف تحت الشجرة وركل جذعها العجوز برجله عدة مرات لينفس عن غضب محتدم في صدره،
وخيبة طويلة لأحلام تحولت إلى دخان أسود خانق يحول بينه وبين رؤية المستقبل،
جلس متهالكا هناك تحت ظل الشجرة الوارف اشعل سيجارة دخنها ثم اشعل من عقبها سيجارة أخرى وراح يدخن الخيبة وينفث الألم،
فما زال الشهر في منتصفه وجيبه فارغ ،
ووجوه أطفاله الشاحبة تتراقص أمام عينيه فقد أصبحت تصلح الآن لإعلان يحكي عن أمراض سوء التغذية وفقر الدم بدل ان تكون صورة لأطفال أصحاء بابتسامة الطفولة المحببة،
وأنين والدته المتواصل من آلام مفاصلها يحرمه لذة النوم،
جلس هناك يصارع الوجع وفي داخله تتمزق القيم وكلمات عن الدين وعن الله وعن الشرف،
ماذا لو صار مرتشيا ليوم واحد فقط!
ماذا لو سرق قليلا! ، لن يهتز الكون، ولن يحدث انفجار عظيم آخر، ولن تتوقف عقارب الزمن!
ماذا لو حمل والدته المريضة وذهب ليضعها في بيت احد اقاربه لتموت هنالك بهدوء ،فهي عجوز عديمة الفائدة ولن تغير في حياته شيء!
ماذا لو مرر تلك المواد المنتهية الصلاحية مقابل مبلغ لابأس به ينقذه وينتشل زوجته واطفاله من الجوع والبرد والذل !
لن يضرب الكرة الأرضية نيزكا، لن تتزلزل الأرض، لن تقوم القيامة
إنها صفقة فساد واحدة ليس إلا!
لن يشعر بها أحد، فالفساد يملأ البلد وجمع مع الناس عيد،
فسيمكنه إنحرافه هذا ولمرة واحدة فقط من أن يشتري بيتا ليسكن فيه بدل بيته القديم الذي تطفح مجاريه مرتين في الشهر وتلتهم الرطوبة جدرانه ومفاصل والدته ويصاب من برودته أطفاله بسعال يستمر من بداية الخريف حتى دخول الربيع ،
ماذا يحدث لو تقمص دور السارق لبضعة ساعات في حياته! وماذا نفعه عمر من الشرف!!
كانت التساؤلات تدور حوله بدورات متتالية ماذا لو ،ماذا لو!
حين غلبه النعاس فأرخى جفنيه المتورمين المسهدين لينزلق في غفوة اخذته بعيدا عن يومه الشاق وليله المظلم،
فتراءت أمامه خيالات غريبة ،
كانت تقف قبالته مباشرة ، وعلى وجهها نصف ابتسامة ، امرأة مخيفة ، لا ، بل رائعة الجمال، لكن كيف يصفها؟
لايدري هل هي صبية أم عجوز!
فوجهها يشع فتنة وصبا، وابتسامتها ساحرة، كل مايقلقه هو الشعر الأبيض الذي تناثر على كتفيها المحدودبين، وكأنها شيخة في السبعين أو الثمانين
صاح بها:
_من أنت، أجن أم إنس،؟
_هل تذكر هذا الحقل؟
_بلى ، وكيف لاأذكره! فاأنا العب فيه مذ كنت طفلا، وسهرت الليالي هنا تحت ضوء القمر، لم يكن يمر علي يوم إلا وزرته.
_ هل تذكر الأزهار اليانعة والفراشات المحلقة والبلابل التي كانت تغرد فوق أغصاني؟
هل تذكر طعم التوت والكروم؟ منذ ان زحف الجفاف مات الجميع لم يتمكنوا من مقاومة العطش ،انحنت رؤوسهم وداستهم الاقدام،
لم يبق إلا أنا،، أنا من ركلتني بقدمك توا ثم جلست لتستظل بظلي.
_أما زلت تقاومين العطش والحر والرياح!!
_مازلت أقوم بواجبي واظلكم تحت أغصاني رغم ألمي، وها أنا أراك تنكسر أمامي وتحاول أن تغير مسارك.
_ وماذا فعلا لي الشرف والإستقامة ياشجرة الحقل؟!
فأولادي يتضورون جوعا ، ثم مالضير في سرقة واحدة!
ثم ما أدراك أنت بما نشعر به نحن البشر!!
لست إلا شجرة،لاتملك عقلا ولاحلا، ولاساقا تنقلها ولاجسدا يتألم.
_إلمس جسدي.
_إنك تتيبسين!!، هل انت ميتة؟
_إنني أحتضر،أنا عطشى،قد قتل الجفاف الحقل لكني مازلت أقاوم.
وكلما شعرت بقرب نهايتي مددت جذوري عميقا لأرتشف بضع قطرات من الماء تعينني على الصمود.
_ماالذي يدفعك لتقاومين؟!
_كلما مددت جذوري عميقاكلما أصبحت اقوى،لن تكسرني العواصف
فأنا أعلم أن لي عمرا محددا لكنني سأقضيه وأنا شامخة واقفة ولن انحني.
ستظلون تجلسون تحت ظلي لآخر يوم في حياتي.
_ أنت عنيدة ،لكن قد يكون عنادك هذا لأنك لست بشرا،ولاتشعرين بما نعانيه.
_لكنها هي ايضا كانت عنيدة
_من هي ؟
_تلك التي فكرت للتو أن ترميها خارج الدار عند أحد أقربائك
تلك التي ازعجك أنينها من آلامها ليلا.
_أمي؟!!
_جلست هنا يوما تنتحب تحت أغصاني قبل عشرون عاما،عندما تراكمت عليها الديون وأثقلت كاهلها ،كنتم أربعة أيتام تتعلقون برقبة أرملة شابة ليس لها مصدر تعيلكم به سوى ذلك التنور الفخاري المرمي الآن على سطح الدار، تقف كل يوم منذ أن يفتح الفجر جفنه وحتى موعد الشمس الذبيحة تخبز خبزا وتبيعه على أهل الحي.
خنقته الدموع فسألها:
_ماأدراك بحالنا وماعانته أمي؟!
_أنا ياعزيزي رفيقة الجميع، الكل يجلس هنا أما يبكي أو يحلم، أنا شريكة أحزانكم واحلامكم.
_أكملي ،ماذا حدث لأمي؟
_أعطاها أحدهم عرضا مغريا ليسقط عنها الديون ،كان صاحب الدكان رجلا فاسدا معدوم الضمير قدم لها عرضا بأن يسقط عنها جميع ديونها التي سجلها عنده مقابل ليلة واحدة تقضيها في فراشه ،فليلة واحدة لن تزلزل الأرض ولن تهد الجبال بحسب حساباتك أنت أليس كذلك؟!
_لا،إخرسي،أمي لايمكن أنت تفكر هكذا.
_وماذا كنت تريد منها أن تفعل وكيف تتخلص من ديونها؟!
_قلت لك إخرسي،لو صدق قولك ،سأحمل نفسي في الحال وأذهب لأحرق البيت بمن فيه.
_لكنها ليلة واحدة،مثل سرقة واحدة، لن تشكل فرقا،ألم تكن تريد إن ترتشي لتسمح بدخول صفقة طعام فاسد ومنتهي الصلاحية!
لمرة واحدة،ألم تقل في سرك أن الإستقامة والشرف لاينفعان ولابد من التنازل عنهما أحيانا !
_هذا شيء مختلف.
_ ماهو المختلف؟،أن تقتل أناس أبرياء بطعام فاسد ألا يعتبر تخليا عن الشرف؟!
_لن أفعلها،قد جبنت وفكرت فقط.
صرخ بها:
_قولي لي أن أمي لم توافق على ذلك العرض ،أجيبيني؟
_ اطمئن ،لم تفكر هي كما فكرت أنت بحل مشكلتك فقد كانت ثابتة القيم عميقة الجذور،
لم تقل مالذي يحدث لو تخليت عن شرفي قليلا كما فكرت أنت
بل ربطت مأزرها حول بطنها الجائعة وراحت تعمل حتى تورمت قدماها وتهشمت مفاصلها،كانت تطعمكم كسرات من الخبز الجاف ورشفات من الشاي لشهرين متواصلين حتى اصفرت وجوهكم وخارت قواكم لكنها سددت دينها للبائع الفاسد بما كانت تحصل عليه من عملها المضني ولم تنحن ولم تنكسر،إنه عمر واحد قد كتبه الله لنا فنقضينه بشرف ونرحل،فالأشجار تموت واقفة أيها الضعيف.
هبت رياح عاصفة دوى صوتها في الحقل المقفر ، انتبه من غفوته،فتح عينيه مذهولا ،من كان يكلمه توا؟من تلك المرأة الصبية الشيخة!أين ذهبت؟
رفع رأسه ونظر إلى شجرة الحقل الكبيرة ،كانت ماتزال واقفة شامخة ،تفحصها جيدا ،انتبه إلى أن الكثير من أغصانها قد جف وكأنها شارفت على الموت.
هرول إلى الدار وهو ينفض التراب والغبرة عن ملابسه
والدموع تقطر من عينيه ،لما كاد أن يقترفه بحق أمه وبحق نفسه ،
وقبل أن يصل ،وعلى بعد مترين من باب الدار ،سمع صوت بكاء وعويل، فتح الباب بيد مرتعشة ،كانت مجموعة من النساء قد تجمعن وسط باحة الدار يرتدين السواد وكأنهن غيمة سوداء تنتظر هطول أحزانها،يتعالى منهن صوت العويل ،دقق النظر فأبصر جسد قد تمدد في الوسط ونساء الحي وزوجته وأولاده يحيطون به من كل جانب،صرخ بصوت مخنوق:
_أمي!!
وقع على قدمي أمه التي قبضها الله إليه قبل ساعة،وارتفعت روحها الطاهرة إلى السماء تاركة جسدها الأبي الذي أنهكه الجوع والصبر بانتظار ان يواروه الثرى،قبل قدميها ومسحهما بدموعه ،فقبل ساعة من الآن كان يهم بأن يرمي تلك الأم ويرتاح من أنينها ويشاور نفسه بقبول صفقة فساد يقول بأن لن ينتبه إليها أحد ، لكن تلك الأم قد رحلت يشيعها النور والكبرياء ،قبل جبينها ،غطاها بعباءتها المتهرئة ،همس في اذنها(رحمك الله ياامي)قد كنت الشجرة الصابرة التي حمتنا بظلها حتى تيبست أغصانها .
دائما، تموت الأشجار واقفة .