تشكل الهجمات التي تشنها جماعات مسلحة بما في ذلك بوكو حرام وتنظيم الدولة الإسلامية في غرب أفريقيا تهديدات خطيرة للاستقرار الهش في وسط أفريقيا، بحسب إحاطة للممثل الخاص للأمين العام أمام مجلس الأمن يوم الاثنين، حيث سلط الضوء على المكاسب الديمقراطية الحاسمة التي يجب حمايتها.
لم تفلح الطبقة السياسية الحاكمة منذ عام ٢٠٠٣ في بناء ديمقراطية متماسكة في العراق لأسباب شتى. وهذا ما دعاني الى القول في مناسبات عديدة بان ديمقراطيتنا، وقد انحرفت كثيرا عن الطريق الصحيح، هي ديمقراطية هشة قابلة للسقوط بسهولة لهذا السبب او ذاك.
واذا ما تخلل الفسادُ مفاصل الديمقراطية الهشة اصبح سقوطها مسألة وقت. لم تسقط الديمقراطية بدخول المتظاهرين مبنى مجلس النواب، فقد سبق للمتظاهرين ان دخلوا المبنى في وقت سابق. وكان ذلك في حينه علامة على هشاشة هذه الديمقراطية. سقطت الديمقراطية العراقية الهشة والمنحرفة مرات عديدة في السابق.
سقطت في الانتهاكات المتكررة للدستور من قبل الطبقة السياسية. وسقطت مع تهميش دور مجلس النواب من قبل الشخصيات السياسية النافذة. وسقطت حين تآكل ايمان الشعب بها. وسقطت حين فقد الشعب ثقته بالطبقة السياسية. كل هذا ولم تنتبه الطبقة السياسية فلم تحاول ارساء اسس الديمقراطية في المجتمع العراقي.
وحتى تتعرز الديمقراطية يجب ان تتوفر طبقة وسطى تجد مصلحتها في النظام الديمقراطي، وان تتوفر ثقافة شعبية تؤمن بالديمقراطية، وان توجد احزاب سياسية ديمقراطية قولا وفعلا، نظريةً وتطبيقاً، وغير ذلك. وفوق ذلك كله تحتاج الديمقراطية الى بيئة سياسية واقتصادية قائمة على اساس المواطنة والحرية والحداثة والعدالة.
لا تلغي الديمقراطيةُ الخلافات في السياسة والمصالح، بل هي الية لإدارة هذه الخلافات وحصرها في الحيز السياسي السلمي القائم على قواعد اشتباك ثابتة. واهم هذه القواعد هو العقد الاجتماعي الذي يوفر اجماعا على هوية الدولة، ليترك التنافس على السلطة ضمن دائرة هذا العقد. هوية الدولة نتاج العقد الاجتماعي، والسلطة نتاج الصراع السياسي الذي يتم ادارته عبر الانتخابات الدورية.
وهذا بالضبط ما لا تدركه بعض القوى السياسية ومعها جمهورها، فيجري الخلط بين هوية الدولة وطبيعة السلطة. ولهذا الخلط نتائج مدمرة. نقرأ قائمة مطاليب ترفعها هذه الجهة او تلك وهي تخلط بين الامور المدرجة ضمن هوية الدولة، وبين النقاط المتعلقة بالسلطة. وفي خضم هذا الخلط ينتهك الدستور وتسقط علويته، وتهمش المؤسسات الدستورية، وتتآكل هيبة الدولة وقوته، وتجنح هذه الفئة او تلك الى نزعة فرض متبنياتها حول الدولة والسلطة على الاخرين.
ليس ما يجري في العراق بدعا من الامر. فقد شهدت بلدان اخرى وتشهد حالات مماثلة، اخرها، فضلا عن العراق، تونس وما يجري فيها من ارتدادات عن الديمقراطية، وقبلها ما جرى في جمهورية فايمار في المانيا.
هي الجمهورية التي نشأت في ألمانيا في الفترة من 1919 إلى 1933 كنتيجة الحرب العالمية الأولى وخسارة ألمانيا الحرب. سميت الجمهورية الناشئة باسم مدينة فايمار الواقعة بوسط ألمانيا والتي اجتمع بها ممثلو الشعب الألماني في العام 1919 لصياغة الدستور الجديد للجمهورية والذي إتبعته الجمهورية حتى العام 1933 حين تمكن الزعيم النازي أدولف هتلر من إحكام سيطرته على مقاليد الحكم في برلين بعد توليه منصبي المستشارية ورئاسة الجمهورية وفرض نظام دكتاتوري شعبوي. وقد حذرتُ منذ سنوات من إمكانية ان تواجه الديمقراطية العراقية الناشئة والهشة هذا المصير اذا لم تتمكن القوى الفاعلة من ترسيخ جذورها وتوفير مستلزماتها.
وهذا ما لم يحصل للأسف. ويقف العراق اليوم أمام مفترق طرق، وعلى المخلصين والواعين تجنيبه خطر الانزلاق في المنحدر، ودفعه باتجاه إقامة الدولة الحضارية الحديثة القائمة على الديمقراطية الحقة، والحرية المسؤولة، والعدالة في توزيع الثروة والسلطة. ربما تكون هذه هي اللحظات الأخيرة قبل السقوط في الهاوية السحيقة، ويجب تدارك الأمر بالعقل والمنطق والحوار قبل فوات الأوان.
لا بد من الإشارة أيضاً إلى كذبة التمييز بين الجمهوريين والديمقراطيين، ووصفهما بالنقيضين في سياساتهما داخل أمريكا وخارجها. فمن الملاحظ التشابه الكبير في استراتيجيات وخطط الحزبين إلى درجة التطابق. فهما لا يختلفان من ناحية العمل على زيادة تراكم المال في يد طغمة صغيرة من عُتات التجار الرأسماليين، وعلى حساب ملايين الأمريكيين الذين يعانون من مشاكل عديدة كالبطالة والعنصرية والعنف والمخدرات. كذلك لا يختلف هذان الحزبان في سياستهما الخارجية تجاه الشرق الأوسط ودول شرق آسا وأمريكا الجنوبية وقارة إفريقيا. فالعداء تام تجاه روسيا والصين وإيران وكوبا وفنزويلا وكوريا الشمالية وفلسطين.
قد تختلف الأساليب إلا أن الاستراتيجيات والأهداف واحدة. ومن المثير للانتباه الحديث المتكرر من الجمهوريين والديمقراطيين في دعم الشعوب في الحصول على الديمقراطية وتعزيز حقوق الإنسان والتنمية فيها. غير أن الواقع يُشير إلى وقوف الإدارات الأمريكية المتعاقبة مع الأنظمة المستبدة في إفشال كل حركة وليدة نحو تحقيق الديمقراطية، وذلك من أجل المحافظة على مصالحها الاقتصادية والسياسية التي تتناقض مع الطموحات التقدمية العادلة لهذه الشعوب.
لقد أثبتت العقود الأخيرة من القرن العشرين، والعقدين الماضيين من القرن الواحد والعشرين على هشاشة الديمقراطية الأمريكية، فقد سجلت حضوراً سيئاً في إيجاد الحلول لمشكلتي البطالة والعنصرية وتضييق الفجوة الواسعة بين الأغنياء المترفين وعامة الأمريكيين.
بينما شكَّل الحضور الخارجي للإدارات الأمريكية الحاكمة وصمة عار في تعاملها مع قضايا الشعوب والدول المختلفة، حيث أشعلت العديد من الحروب ونشرت الدمار في مختلف قارات العالم، بدلاً من المساهمة في إيجاد الحلول الناجعة لها. والغريب أن العديد من المثقفين والسياسيين من العرب وغيرهم يُريدون أن يقنعوا الرأي العام الدولي وكافة الدول والشعوب بالاقتداء بالديمقراطية الأمريكية حصراً، وبلا خجل. الديمقراطيات الهشة قد تعجز عن معالجة عيوبها بما في ذلك الخلافات الحادة بين الأطراف السياسية وفق الآليات الديمقراطية السلمية المدنية. مرة أخرى تبرهن الديمقراطيات الهشة أو الوليدة عن قدرتها على التراجع أو العطب أو الشلل أو التصدع أمام الخلافات بين أطراف العملية السياسية أو الفساد. وتبرهن أيضاً عن إمكانية عالية في عدم قدرتها على معالجة مشاكلها بطريقة ديمقراطية ومن خلال مؤسساتها المنتخبة.
من موريتانيا جاء الشاهد الأكيد على ما نقول. ففي هذا البلد العربي – الإفريقي الذي شهد قبل حوالي 16 شهرا ولادة الديمقراطية، انهارت التجربة أمام أول اختبار حاسم، وتبين أن أسسها هشة بما لا يسمح لها بمقاومة مضاعفات الخلافات السياسية ولا مضاعفات الفساد المتوقع حصوله في الحالات المماثلة.
البداية الحاسمة في هذا الانهيار تمثلت في الخلاف بين رئاسة الجمهورية وبعض القيادات العسكرية التي تعتبر نفسها مسؤولة عن النظام السياسي الديمقراطي، وهو الخلاف الذي لم تتمكن الديمقراطية الموريتانية من حله وفق القواعد الديمقراطية. ومع أن الأصل في الأنظمة الديمقراطية يقضي بخضوع القوات العسكرية للقيادات المدنية للبلاد، إلا أن بعض قادة الجيش الموريتاني آثروا التمرد على القيادة السياسية المدنية المنتخبة، وأخذوا على عاتقهم قيادة العملية السياسة متسلحين بما توفره المؤسسة العسكرية لهم من قوة لا تقاوم، وفي هذا خرق كبير لقواعد الديمقراطية.
ويعود بعض جذور الخلاف الرئاسي – العسكري الي خلافات سياسية – سياسية شهدها البرلمان الموريتاني في الآونة الأخيرة. والبعض الآخر يعود الي فشل الطبقة السياسية في حل خلافاتها داخل البرلمان. ربما لم يمنح البرلمان فترة كافية لحل هذه الخلافات، فنشأ تحالف بين قوى سياسية معارضة وقيادات عسكرية وفّر غطاء سياسياً لتحرك القادة العسكريين ضد مؤسسة الرئاسة المدنية المنتخبة، وإنهاء صلاحياتها بقرار عسكري بعيداً عن المؤسسة البرلمانية المنتخبة وفق الشروط البرلمانية.
وهذا ما يفسر، ربما جزئياً، لماذا وقف بعض البرلمانيين المدنيين المنتخبين الى جانب القيادات العسكرية وأيدوا ما وصفوه بحركتهم التصحيحية. وهذا يكشف بوضوح عدم رسوخ القواعد الديمقراطية التي تقضي بإجراء الحركات التصحيحية تحت قبة البرلمان وليس عن طريق القوة العسكرية التي يفترض أن تبقى في الثكنات لحراسة الدولة والوطن، وليس لإجراء الحركات التصحيحية وتغيير الرؤساء والحكومات. وليس أبلغ من هشاشة الديمقراطية لجوء سياسيين مدنيين منتخبين الى المؤسسة العسكرية لحسم خلافات لم يتمكن البرلمان من حلها سياسيا وسلمياً.
لم يظهر الانقلاب الموريتاني وكأنه انقلاب شامل، حيث لم يتم تعليق الدستور ولا حل البرلمان، بل جرى تكليف الحكومة السابقة تصريف الأعمال الى حين تشكيل حكومة جديدة، ما يكشف عن محدودية الدوافع وراءه، وما يجعله مجرد حركة جزئية تستهدف إلغاء قرارات اتخذها الرئيس في حق بعض القيادات العسكرية،
التي شاءت أن تعبّر عن رفضها هذه القرارات بإنهاء سلطة الرئيس، بقوتها العسكرية. صحيح أن دستور موريتانيا لا يعالج بوضوح طريقة إعفاء أو إقالة رئيس الجمهورية، لكنه لم يمنح القادة العسكريين مثل هذه الصلاحية. ومن المؤكد أنه كان في الإمكان معالجة مشكلة القرارات وفق العديد من الآليات الإجرائية التي يتيحها الدستور الموريتاني. لكن هذا لم يتم، لأن البناء الديمقراطي ليس راسخاً بالدرجة التي تجعل مجرد التفكير في الانقلاب العسكري خارجا عن المعقول والمقبول.