العدالة هى الركيزة الأساسية لأى مجتمع فبها يستتب أمنه ونظامه ويطمئن أفراده على أنفسهم وأموالهم ولا تحقق العدالة غايتها إلا إذا حصل كل ذى حق على حقه فى وقت معقول دون مشقة وطول انتظار وهذا ما يعرف بالعدالة الناجزة التى أصبحت الآن حلما بعيد المنال بعد أن تفاقمت المشاكل التى تعترضها
وباتت مستعصية على الحل ،وتعتبر مصر من أكثر الدول معاناة من هذه الظاهرة حيث تمكث بعض القضايا فى المحاكم لعشرات السنين وربما يموت صاحب الحق قبل أن يحصل عليه . وتتعدد أسباب هذه الظاهرة فمنها زيادة عدد القضايا نتيجة للتعسف فى استعمال حق التقاضي سواء فى الادعاء بدون وجه حق أو التعسف فى استعمال حق الدفاع ،
ومنها عدم الاهتمام بما تتميز به بعض المنازعات من خصائص تجعلها مختلفة اختلافا كبيرا عن غيرها وعدم التعامل معها بما يناسبها من إجراءات مناسبة وقضاء مناسب ،
ومنها ما يتعلق بإجراءات التنفيذ حيث لم يلبث صاحب الحق من الحصول على حكم يثبت له حقه بعد المعناة التى عاناها أثناء المحاكمة حتى يبدأ مرحلة جديدة من المعاناة أشد وطأة من الأولى لافتقار التنفيذ إلى أهم الوسائل التى تجبر المحكوم عليه على الوفاء وعدم وجود الادارة الكفيلة بالقضاء على ما يثيره المدين من عقبات .
العدالة هى التى تقيم الدول وتثبت قواعدها فلا وجود لدولة مستقرة إلا بها وبدونها يسود الظلم والظلم وتعم الفوضى ويسوء حال العباد والبلاد فالظلم يؤذن ، وتلعب القواعد الإجرائية دورا هاما في تحقيق العدالة فما يضعه بخراب العمران المشرع من قواعد إجرائية إنما يهدف من ورائها إلى تحقيق العدالة وحسن سير فيطمئن الناس على حقوقهم ويستقر الأمن القضاء بما يحقق مصلحة الخصوم والنظام فى المجتمع .
فقواعد العدالة الموضوعية التى تحدد حقوق الأفراد وواجباتهم لا تكفى وحدها لتحقيق العدالة ما لم توجد إلى جوارها القواعد التى تكفل حماية هذه الحقوق عند الاعتداء عليها فلا قيمة للحق بدون حماية والقواعد الإجرائية هى التى تكفل تحقيق الحماية فتنظم الإجراءات التى يتبعها الأفراد عند اللجوء للقضاءلاقتضاء حقوقهم والدفاع عنها فتضمن حصول كل صاحب على حقه عن طريق القضاء فلا يخشى ضياعه أو فقدان جزء منه ، فالقواعد الإجرائية هى الأداة التى تطبق القواعد الموضوعية أمام القضاء ، فلا قيمة للقواعد الى تقرر العدالة .
الموضوعية دون وجود القواعد التى تكفل تحقيق العدالة الإجرائية والعدالة لا تكون كاملة ولا تتحقق مقاصدها إلا إذا كانت ناجزة الناجزة فى جميع مراحلها فيحصل صاحب الحق على حقه بدون معاناة ومشقة فلا يظل يلتمس صدور الحكم زمنا طويلا يخسر فيه الكثير من المال فإذا ظفر بالحكم لم تسعفه إجراءات التنفيذ فى الحصول على حقه الذى حكم له به القضاء ، فلا يكفى النطق بالحق بل يجب أن يكون النطق بالحق في الوقت المناسب ولا يكفى النطق بالحق فى الوقت المناسب ما لم يتم تنفيذه ، فليس عدلا بحال ذلك القضاء الذى يرهق كاهل المستجير به المتطلع إليه بثمن غال يبذله صاغرا من وقت وجهد فإن تحقيق هذه الغاية يجب أن يكون فى الوقت المناسب وإلا ضاعت ومال فالعدالة الناجزة هى التى تحقق المقصد من العدالة فى وقتها فبقدر تأخر العدالة يتأخر تحقيق مقاصدها وبقدر إنجازها يتم إنجاز هذه المقاصد ،
فإذا كانت العدالة هى الغاية التي أنزلت من أجلها الشرائع وأرسلت من أجلها الرسل وأنزلت بها الكتب الحكمة منها ، لذا فإن العدالة الناجزة هى العدالة الكاملة وهى ليست مقصدا شرعيا أما العدالة البطيئة فهى فقط بل هى من أهم مقاصد الشرع والقانون وكافة الناس عدالة ناقصة وأقرب إلى الظلم لأنها تؤخر تنفيذ مقاصد العدالة برد الحقوق إلى أصحابها ويترتب عليه من حرمان أصحاب الحقوق من الانتفاع بها لفترة طويله ينتفع به فيها غير المستحق بما ليس من حقه يستمر فيها التنازع بينه وبين صاحب الحق – ويقتضى تحقيق العدالة الناجزة القضاء على كل العقبات
تبدأ أولى خطوات العدالة الناجزة مع بداية تدخل جهاز العدالة لتحقيقها بالقضاء على كل ما يشغل وقته بدون داع من الأساس ومنع كل ما يعطله عن إصدار الحكم وهو التعسف في استعمال حق التقاضي ،كما يساعد القضاء فى تحقيق العدالة الناجزة العمل على التطبيق الكامل لنصوص القانون لضمان صحة الدعوى من بداية رفعها وتسيير الإجراءات التي تتخذ أثناء نظرها أمام المحكمة ،وقد اتبع النظام القضائي الإسلامي كل ما من شأنه القضاء على التعسف في استعمال حق التقاضي ومنح القضاة سلطة اتخاذ الإجراءات التي تساعد على سرعة البت في الدعوى ، وهذا ما يمكن الاهتداء به وتطويره للتغلب على بعض المشاكل التي تعترض العدالة الناجزة الآن .
نتوقف أمام المادة 97من الدستور المصري المعدل 2019 حيث نص فيه أن التقاضي حق مصون ومكفول للكافة. وتلتزم الدولة بتقريب جهات التقاضي، وتعمل على سرعة الفصل في القضايا، ويحظر تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء، ولا يحاكم شخص إلا أمام قاضيه الطبيعي، والمحاكم الاستثنائية محظورة. ونقف عند الفقرة التي تلزم الدولة بأن تكفل سرعة الفصل في القضايا، ونتساءل في أمانة وتجرد وقلق ــ هل أوفت الدولة بالتزامها ؟ ثم ما هو معيار السرعة المطلوبة للفصل في القضائي؟تجيب المحكمة الدستورية العليا على ذلك في حكم لها بقولها إن ضمانة سرعة الفصل في القضايا المنصوص عليها في المادة 97 من الدستور، غايتها أن يتم الفصل في الخصومة القضائية ــ بعد عرضها على قضاتها ــ خلال فترة زمنية لا تجاوز باستطالتها كل حد معقول، ولا يكون قصرها متناهيا، ذلك أن امتداد زمن الفصل في هذه الخصومة دون ضرورة، يعطل مقاصدها، ويفقد النزاع جدواه، فإذا كان وقتها مبتسرا، كان الفصل فيها متعجلا منافيا حقائق العدل.
حيث أن بعض القضايا في المحاكم قد يستغرق نظرها والفصل فيها فترة زمنية تجاوز باستطالتها كل حد معقول حيث يستطيل أمد التقاضي ــ بغير أسباب جدية ــ إلى ما يجاوز المعقول والمألوف والمحتمل، ويستغرق أحياناً بقية عمر المتقاضي حتى يوافيه أجله ثم يستكمل ورثته من بعده رحلة المطالبة بحقوقه التي قصرت حياته عن الحصول عليها. إن بطء التقاضي ومشقة معاناة أصحاب الحقوق في استئدائها يورثهم إحساسا مدمراً بالعجز، ويهز إيمانهم بالعدل ويضعف ثقتهم في القضاء، ويوهن انتماءهم للوطن الذي لم يكفل لهم سرعة الفصل في أقضيتهم كما ألزمه الدستور.
استطالة إجراءات التقاضي ــ بلا مبرر ــ تهزم عقيدة المؤمنين بأن الحقوق لا تسقط، ولا تضل الطريق إلى أصحابها، وتهدم الشعار السائد بأنه لا يضيع حق وراءه مطالب، ويعصف بالأمل في استرداد الحق الذي استلب من صاحبه حال حياته، وينشر اليأس في النفوس، ويصيبها بلسعة المرارة في الحلوق. وان تأخير الحكم بالعدل نوع من الظلم وقد جاءت الشريعة الإسلامية بالأمر بسرعة إيصال الحقوق إلى أصحابها، وكان الخلفاء يوصون القضاة بذلك، فقد ورد في كتاب عمر بن الخطاب إلى معاوية – رضي الله عنهما -: “وتعاهد الغريب، فإنه إن طال حبسه ترك حقه، وانطلق إلى أهله، وإنما أبطل حقه من لم يرفع به رأسا…” (أخبار القضاة لوكيع 1/75).
وتأخير الفصل في القضايا المنظورة فيه مفاسد كثيرة منها تأخير انتفاع صاحب الحق بحقه وأيضاً زيادة إثم الظالم مدة بقاء الحق في ذمته. وأيضاً بقاء الضغينة بين الخصوم مدة التقاضي، وسرعة الفصل يبعدها أو يخففها. ومن أسباب هذه الظاهرة كثرة التشريعات وتشابكها وأحياناً غموضها وربما تناقضها ــ وتعقيد الإجراءات وأيضاً ضخامة أعداد القضايا المتداولة أمام المحاكم ــ وقلة عدد القضاة والإداريين وأيضاً التجاء الخصوم إلى استغلال الثغرات القائمة في بعض التشريعات لتأخير الفصل في الدعاوى – ضرورة إخضاع الموظفين لدورات مكثفة لتحديث معلوماتهم واطلاعهم على الجديد وتنمية المعلومات القانونية
ومن المقترحات التي قد تساعد مراجعة كافة التشريعات وتنقيتها ــ زيادة عدد القضاة المؤهلين للفصل في القضايا مع الأخذ بنظام القاضي المتخصص ــ تنظيم التقاضي بوضع ضوابط ومعايير لحالات الخصومة القضائية تضمن الجدية عند رفع الدعاوى دون مصادرة لحق التقاضي ذاته وأيضاً تطوير أبنية المحاكم لكى تكون مؤهلة للتقاضي – وزيادة أعداد الموظفين الإداريين والفنيين في المحاكم بما يتناسب مع عدد القضاة – واستخدام التقنيات الحديثة التي عرفها العالم كله ويتم تطبيقها وتوفير الأجهزة الإلكترونية المناسبة في المحاكم وتجديدها باستمرار لمواكبة التكنولوجيا الحديثة باستمرار.
فإذا كانت الأسباب معروفة، والحلول موجودة فهل لنا أن نبدأ، وأن نعمل، لأن تأخير حصول المواطن على حقه أو عجزه عن نواله يقوده إلى البحث عن بدائل حين يفقد أمله في قضاء عادل وسريع، وقد يكون ضمن هذه البدائل انتزاع حقه بنفسه بالقوة أو بالعنف، بغير الالتجاء إلى القضاء، وبوسيلة أخرى تفجرها نوازع الشر، ومشاعر اليأس، والإحساس بالضياع وقبل ذلك كله ضراوة الشعور بالظلم لأن العدالة التي تأتى بعد موعدها بطيئة متراخية متخاذلة هي الظلم بعينه.