إن أخطر مأزق كشفته هذه الحرب على غزة هو المأزق الإنساني، والأخلاقي؛ فقد تحوَّل العالم إلى وحش فاقد لأبسط مبادئ الإنسانية.. لذلك على العالم أن يراجع إنسانيته على مرآة غزة ويبحث عن ضميره الذي سقط منه وهو يجري وراء مادياته الرخيصة.
ما يحدث من مجازر وجرائم مروعة وعمليات تطهير عرقي بحق الفلسطينيين في قطاع غزة من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي جرائم فظيعة لا يمكن أن يتجاوزها التاريخ أو ينساها؛ لأن مشاهدها ستبقى محفورة في ذاكرة من رآها، ستبقى ندوبها ما بقيت لهذه الأجيال ذاكرة.
. لكنها في الوقت نفسه ستبقى تطرح سؤالا مهما ومفجعا: أليس لهذا العالم ضمير إنساني حي؟ هذا العالم الذي يجرحه ذبح عصفور صغير أو دهس قط في أي شارع من شوارع العالم، ألا يجرحه ذبح مئات الأطفال في غزة؟ ألا يفجعه ذبحهم وهم في لحظة بين الخوف والوسن في لحظة توهَّم الجميع فيها أن الهدوء قد عمّ المكان؟ ألا يوجعه قصف المستشفيات بمَن فيها؟ وهدم البنايات على رؤوس أصحابها؟
ألا تخجله تلك الأيادي المتدلية من وسط الركام وكأنها تشبثت بصحوة متوقعة للعالم حتى نزفت رمقها الأخير؟ أم أن هذا العالم قد وصل إلى ذروة توحشه وفقدانه للإنسانية فلا يرف له جفن وهو يرى جثث الأطفال تتناثر في الطرقات وتتقطع أشلاء النساء وكبار السن، وتفرّق الأسر وتهجير أكثر من مليون شخص في ظروف إنسانية صعبة جدا.. فيما يقول العالم إنه قد وصل إلى «نهاية التاريخ» من التقدم البشري والتفوق.
اليوم، يُواجه قطاع غزة كارثة إنسانية هائلة تُعَدُّ النتيجة الحتمية للعدوان العسكري الإسرائيلي المُستمر، تلك الكارثة التي لا تنبعث من كوارث طبيعية أو بيئية. ووفقًا للبيانات التي نُشرت من مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة في 16 أكتوبر 2023، فقد بلغ عدد الضحايا الفلسطينيين من جراء تداعيات الأوضاع الإنسانية المروعة في العشرة أيام الأولى أكثر من 2670 فردًا نتيجة للهجمات العدوانية الإسرائيلية. وتشمل هذه الحصيلة المأساوية 600 طفل وتعرض حوالي 9600 شخص للإصابات المختلفة.
لعلّ العالم الغربي الذي يستطيع وحده كبح هيجان الكيان الصهيوني الذي لا يرى في سكان غزة بشرا يستحقون أن يعيشوا كما يعيش بقية البشر على هذه الأرض، ولذلك وضعهم الاحتلال في سجن كبير منذ عقد ونصف العقد وطلب العالم منهم أن لا تكون لهم أي ردة فعل حتى لا يصبحوا إرهابيين. وهذا أمر غريب في وعي الغرب الذي يحتفي كثيرا بالمنطق، وبالمقدمات والنتائج، ويحتفي بحقوق الإنسان ويقيم الدنيا ولا يقعدها لو حَلُمَ في اللّيل أنها تُنتهك في مكان ما في الشرق الأوسط، عدا إسرائيل بطبيعة منطقه.
تسببت الغارات الجوية الإسرائيلية المستمرة في العديد من المرافق المائية والصرف الصحي والنظافة في شمال قطاع غزة بالتضرر. وكانت هذه المرافق توفر خدمات المياه والصرف الصحي لأكثر من مليون ومائة ألف شخص، مما يعني أن نحو نصف السكان يعانون من نقص في المياه الصالحة للشرب وخدمات الصرف الصحي. وفي الوقت نفسه، يتمتع رؤساء البلديات في القطاع بجميع وسائل الراحة، بما في ذلك الماء والكهرباء. في منطقة بيت لاهيا والمناطق الشمالية الأخرى، تراكمت مياه الصرف الصحي والنفايات في الشوارع بسبب الأضرار التي لحقت بشبكات الصرف الصحي والبنية التحتية.
إن الغرب يسقط الآن أمام نفسه وتاريخه ومستقبله ولحظته الحاضرة الصعبة، قبل أن يسقط أمام أطفال غزة الذين يتورط الغرب قبل إسرائيل في جعلهم يفقدون معنى طفولتهم وبراءتهم عندما تُلطّخ وجوههم بدماء آبائهم وأمهاتهم، وكأن الغرب لا يعلم أنه يصنع منهم جميعا مشاريع انتقام مستقبلية ليس لإسرائيل التي يخوض الفلسطينيون معها نضالا طويلا من أجل الأرض والكرامة والحرية منذ 75 عاما ولكن مشاريع انتقام للغرب نفسه قبل أي أحد آخر.
كما يعَدّ حصار وممارسات التجويع من الأعمال الشرعية في حالات النزاعات المسلحة التي تستهدف العسكريين فقط، ومع ذلك، يمنع القانون الدولي الإنساني ممارسات التجويع ضد المدنيين. وعلى الرغم من أهمية أن يتم تضمين هذا المبدأ في معاهدة جنيف، إلا أن صياغته كانت غامضة مما سمح للأطراف المفروضة للحصار استغلال هذه الثغرة، حيث يحظر النص القانوني التجويع ولكنه لا يمنع الحصار نفسه، كما أنه لا يشمل أيضًا التجويع المستقبلي -والذي ليس مقصودًا- خاصةً عندما يتزامن مع قصف المناطق المحاصرة وأسواق التجارة والبنية التحتية الضرورية لاستمرار الحياة وانقطاع المياه.
وبفتح هذا المجال القانوني، تُمكِّن هذه الحجّة من الإشارة إلى أن الهدف هو تمكين البعثات الإنسانية من الدخول دون أن يتعرضوا لمطاردة قانونية بسبب الحصار ذاته، وهذا لتيسير اتخاذ أي إجراء عسكري دولي لكسر الحصار. وفي الواقع، فإن أي دولة تواجه حصارًا تدّعي دائمًا أنها تتعرض لتهديدات عسكرية، وليس هدفها إفقار المدنيين.
وبناءً على ذلك، يعتقد أن يفرض تحمل إضافي على القوانين الإنسانية الدولية، حيث يجب الحصول على موافقة من أي طرف معني قبل أن يسمح بدخول بعثات المساعدة الإنسانية. بالإضافة إلى ذلك، يصف “دليل أكسفورد” للمساعدة الإنسانية في حالات النزاع المسلح رفض إدخال المساعدات الإنسانية بأنه تصرف ديكتاتوري ، في حالة انتهاك الدولة لالتزاماتها تجاه المدنيين وفقًا للقانون الدولي. في ظل الحصار الحالي لغزة، نواجه وضوحًا متطرفًا بسبب التصريحات المتناقضة والصريحة للمسئولين الإسرائيليين في نفس الوقت، التي تستهدف المدنيين بدون أي تردد أو تشويه. وبالتالي، فإن إسرائيل ترتكب بشكل مباشر جريمة استخدام الجوع ضد المدنيين بلا تمييز. فالحصار المفروض عسكريًا وقانونيًا وفقًا للقانون الدولي الإنساني، يجب أن يستهدف المقاتلين في مواقع محددة لإجبارهم على الاستسلام، وهذا مختلف تمامًا عن مفهوم جوع المدنيين الذي لا يميز بينهم وبين المقاتلين ويهدف إلى القضاء على البشرية بأكملها. ويتضح هذا بوضوح من التهديدات والتحذيرات الصادرة عن المسئولين وتنفيذ هذه التهديدات. لذلك، فإن ما تقوم به إسرائيل في الوقت الحاضر، وفقًا للقانون الدولي، يشكل بلا أدنى شك إبادة جماعية ضد غزة.
بينما تصر حركة حماس، بعدما أطاحت بالشعب الفلسطيني في خمس حروب في قطاع غزة ضد عدو فاشي متطرف، على السيطرة التامة في اتخاذ قرارات السلام والحرب وفقًا لأجندات إقليمية لا تعنى بمصالح الشعب الفلسطيني على الإطلاق. ومن أجل التبيين في موقفي السياسي، أعتبر هذه المعركة هي معركة وكالة بين إسرائيل وإيران، إذ يقاتل كلاهما باستخدام دماء الشعب الفلسطيني،
دون تفكير أدنى في أن دماء الفلسطينيين هي الأثمن في المنطقة وحتى في العالم بأسره، وأنها تنساب دون جدوى أمام المصالح السياسية الإيرانية والإسرائيلية والأميركية.
تسعى حماس، بواسطة توسعه وقدراته المحدودة، وعبر الترويج الإعلامي الإخواني الخارجي، إلى تصوير الصراع بين كيانين متساويين في تحليلات سياسية وعسكرية مبالغ فيها. وهذا لا يعكس القصة الفلسطينية الحقيقية، والتي تشير إلى أننا شعب مضطهد يعاني تحت وطأة الاحتلال الاستيطاني المستبد والعنيف، بسبب الدعاية الإسرائيلية، فقد تحولت الصورة من شعب ظلمته إلى شعب إرهابي غير مستحق للإنسانية، حيث تدينه دول العالم وتدعم الجاني الحقيقي بأقوى الأسلحة وأحدث التقنيات العسكرية.
أعطت حركة حماس إسرائيل فرصة للتماسك مرة أخرى حول قضية وطنية بعد الانقسام السياسي في المجتمع الإسرائيلي بسبب سياسات بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة. استغل نتنياهو الهجمات التي نفذتها عناصر حماس وأسفرت عن قتل واختطاف في المستوطنات والمعسكرات الإسرائيلية ليقود حملة عالمية للقضاء على حماس في غزة. حصل على الدعم السياسي والعسكري الذي سيستخدمه لإنقاذ نفسه سياسيا من خلال مواصلة ارتكابه لجرائمه وحروبه العنيفة ضد السكان الأبرياء في القطاع الذي تركتهم حماس بلا أدنى وسائل الدفاع، وهذا يوصلني إلى النقطة التالية.
تعلن حماس بكبر وجرأة أن “طوفان الأقصى” لم يحدث فجأة، بل هو نتيجة لسنوات من العمل والتخطيط، ولم يتم بذل أي جهود لمساعدة الشعب وتأمين احتياجاته الأساسية. فأين هي مكونات الصمود للشعب المعزول من الأدوية والطعام والشراب؟ لماذا لم يتم بناء وتخزين ما يكفي للشعب لمدة شهر أو شهرين؟ ولا يوجد أي عذر لكسر هذا الحصار المفتوح. فإنه من الممكن لمن يستطيع إدخال المواد لبناء آلاته العسكرية والصاروخية أن يستطيع أيضًا إدخال الأدوية والمواد الغذائية وتخزينها في مكان آمن لتعزيز صمود الشعب الذي تركته قيادة حماس بمفرده يعاني من ويلات الحرب حاليًا، كما تعاني في الماضي.
هلم يتواجد يحيى السنوار، زعيم حركة حماس في غزة؟ لماذا لم يظهر ويعلن عن العملية بنفسه؟ لماذا لا توجد تصريحات صادرة منه حول ما قامت به حركة حماس؟ نسمع عن الاختلافات بين فروع حماس وتوجهها نحو أجندات إيران في المنطقة، هل تم اغتيال يحيى السنوار قبل العملية لضمان تنفيذها، وعُلِم باغتياله بعد انتهاء الحرب؟ هل يتم اغتيال القادة المقربين منه عن طريق كشف مواقعهم وأماكن تواجدهم للتخلص من توجهه في غزة خلال النزاع؟