أخّذتُ من دولة محمد علي باشا موقفاً متحفظاً في مُستّهل رحلتي عبر أثير الكتابة، لكثير من الإخفاقات في مضمار الوطنية ومُهادنة المحتلين كل في رَقاعة .. فلم يروقني مسلك محمد علي ولا ابنه سعيد ولا حفيده توفيق ، الذين فتحوا البلاد على مصراعيها للفرنسيين ثم الإنجليز ببراهين مُنقّحة وأقصى درجات التدقيق….
ولم أكن لأعدل بوصلتي الناقدة لهذه السلالة، إلا بعد إدامة بصري في أحشائها واستخلاص ما يُملي علي من تجرد للأمانة ….
فقد لاح لناظري مشاهد خلابة كلها من عّقِب توفيق وذاك توفيق منها ببعيد، فأما ابنه الأكبر ووريثه في العرش، فهو نقيضه، كما كان نقيض الأكاثر من السلالة العلوية سلفاً وخلفاً.. إنه عباس حلمي الثاني، نسيج وحده في دولة محمد علي، الذي داوم في الإصلاح وقاوم الانبطاح وللاحتلال انبرى وازدرى…
في 14 ديسمبر 1944م توفي آخر خديوي في مصر، وأفضل حكام الدولة العلوية بكل فخر ..
مات في المنفى الذي طرحه فيه الإنجليز، بعد أن كان شوكة في حلقهم وحلق كبيرهم كرومر، بعد رفضه الصريح للتطبيع، بعد أن رسم على جبين شعبه أعظم ملاحم النضال ، مُشدّاً بعضد مصطفى كامل ومحمد فريد على ذات المنوال ….
وليس أدل على جمال سيرورة عباس حلمي الثاني، من هتاف المصريين المدوي له ( الله حي عباس جاي )
وفي بادرة هي النادرة في تاريخ حكام مصر، أن يجتمع ثلاثة من بيت حكم واحد على البر والخير، عباس حلمي الثاني وأمه أمينة هانم إلهامي وأخته الأميرة نعمة الله ….
ويُعزى لعباس حلمي الثاني روح النهضة الحضارية التي شهدتها مصر، ولا تزال ومضاتها تنبلج في أنحاء القاهرة وأخواتها …
مؤسس أعظم الكباري ( كوبري عباس وكوبري امبابة وكوبري بولاق والملك الصالح وكوبري الجلاء ) وخزان أسوان وفروع القناطر ، ومحطة رمسيس بالقاهرة ، وقصر المنتزة وبورصة الأسكندرية ، ودأبه المتناهي في ترميم الآثار الإسلامية، كمسجد عمرو بن العاص ومسجد السلطان حسن ومسجد أحمد بن طولون .. وتوقه للعلم وإبراز مؤسساته ، فأمر بمكتبة للأزهر، وبزغت في عهده منارة جامعة القاهرة، وتشييده للمتاحف وأشهرها المتحف المصري وتلقيبه ( بأبي المتحفين ) …
وتلك هي أمه أمينة هانم إلهامي، زوجة الخديوي توفيق التي آثرت على نفسها كل ما ورثته عن زوجها وأبيها وجدها لأمها السلطان عبدالمجيد الأول .. لتتاجر به مع الله في شتى دروب الخير جميعاً.. فأسست سلسلة مدارس تحمل اسمها المدارس الإلهامية، إبتدائية وثانوية وزخرفية ، فعرفت بسيدة التعليم الأولى ، وأنفقت على المساكين، حتى لُقبت ( بأم المُحسنين )..
وتمضي الأميرة نعمة الله توفيق، على ذات بصمات أمها، فقد منحت قصرها لوزارة الخارجية المصرية لتتخذها مقراً، وتمكث هي في دار بسيطة كواحدة من عوام الشعب ….