إن التعليم بصورة عامة والتعليم العالى بصفة خاصة يواجه بالکثير من القيود التى تحد من کفاءته وتضعف من جودة مخرجاته ولعل أبرز تلک القيود وأشدها تأثيراً على مسيرة التعليم العالى هى محدودية مصادر التمويل الأمر الذى يعيق إمکانية تطوير التعليم العالى وتحسين جودة مخرجاته. يتمثل الهدف الرئيسى لهذا البحث فى تسليط الضوء على موضوع الاستثمار فى التعليم العالى فى مصر مع محاولة رسم مقترحات لعلاج مشکلة الإنفاق على التعليم العالى فى مصر.
أکد علماء المستقبليات أن القرن الحادي والعشرين سيکون العنصر الحاکم والفعّال فيه هو الإنسان المتعلم والقادر على أن يستمر متعلماً ، وأن المعرفة قوة ، ومن ثم فإن الأمة القوية هي الأمة العارفة ، أما الأمة التي ستتخلف عن استثمار مواردها البشرية فستبقى في خطر خصوصاً إذا علمنا أن السرعة التي تتغير بها التکنولوجيا تکاد تکون يومية تقريباً ، وأساس الاستثمار في التعليم هو أن هذا القطاع يعتبر نقطة تقاطع القطاعات الأخرى ، لأنّ فعاليته ستؤدي إلى زيادة فعاليات بقية القطاعات ، حيث أکّدت عشرات الدراسات والبحوث على الوظيفة الاقتصادية للتعليم ودوره في التنمية الشاملة والنمو الاقتصادي ، ولذا فإن حجم الاستثمار في هذا القطاع الحيوي يؤثر بصفة مباشرة وغير مباشرة على فعالية الاستثمارات في القطاعات الأخرى ،
ومن هنا يجب اعتبار الاستثمارات التعليمية استثمارات إنتاجية وليست استهلاکية ، و لعل المزيد من رأس المال الذي يضاف إلى استثمارات التعليم يتيح الفرصة لتقديم مزيداً من الخدمات لعدة سنوات ، ولما کانت الجامعات والمدارس تخدم الطلاب خلال حياتهم ،
فإن الإنفاق على المباني و المنشآت يعد استثماراً طويل الأجل ، و يمکن ملاحظة ذلک بتحليل تکاليف وعوائد التعليم ، ولقد توجهت الدول المتقدمة إلى الاستثمار التعليمي کمسار قوي ورئيس لاستثمارات الدول في تحقيق أکبر عائد ربحي في مجال التعليم ،
وبالتالي أکبر عائد من التقدم والرفاهية للبلاد لما للتعليم من أهمية وأولوية قصوى في تحرک المجتمعات نحو الرفاهية والتقدم. فما هي هذه التوجهات ؟ وکيف لنا أن نستفيد ـــ في مصر ــــ من هذه التوجهات الحديثة في مجال الاستثمار التعليمي؟ وکيف نجعل الاستثمار في مجال التعليم عجلة دافعة للاقتصاد المصري دون أعباء جديدة على کاهل هذا الاقتصاد؟
بدائل مقترحة لعلاج مشکلة الانفاق على التعليم العالى فى مصر
هناک العديد من الآراء حول مصادر تمويل التعليم العالى وذلک على عدة محاور کما يلى:
البديل الأول: العمل على زيادة الموارد المالية الحکومية، أى لابد من زيادة حصة التعليم کنسبة من الناتج المحلى الإجمالى، مع زيادة متناسبة فى الانفاق على التعليم العالى، ويوجد عدة أساليب لضمان حسن توزيع الموارد المالية. واستخدامها بکفاءة وفاعلية ومنها أسلوب تحليل التکلفة / العائد
البديل الثانى: ضرورة الحد من سوء تخصيص الموارد وذلک بتحميل المستفيدين من التعليم بالنسبة الأکبر من تکاليف التعليم وإعطاء إعانات لغير القادرين بالنسبة لمستويات التعليم الأقل وإعطاء قروض بالنسبة لمستويات التعليم العالى، کما يجب السعى نحو تحقيق کفاءة وفاعلية فى إستخدام الموارد المتاحة
البديل الثالث: زيادة اسهام القطاع الخاص فى تمويل التعليم العالى من خلال تطوير الأنظمة والإجراءات الإدارية والمالية فى إدارات التعليم المختلفة، بالإضافة إلى تشجيع رجال الأعمال على إنشاء مؤسسات تعليمية تتنافس فيما بينها على تقديم خدمة تعليمية مميزة، ويجب على الحکومة أن توفر کل ما يلزم من دعم مالى وتقنى وحوافز لتشجيع الشراکات الإيجابية بين مؤسسات القطاعين العام والخاص.
البديل الرابع: على نفس منهج التکافل يمکن إنشاء صندوق عربى لدعم التعليم تموله الدول المصدرة للبترول والمستوردة للعمالة العربية، حيث تمثل هذه الدول أحد المستفيدين من مخرجات التعليم، کأحد مصادر تمويل التعليم العالى الخارجى، بما يدعم تطوير ونمو مؤسسات التعليم الجامعية العربية.
البديل الخامس: خلق دوافع المشارکة من جانب رجال الصناعة والإنتاج فى تمويل التعليم عن طريق الاهتمام بالمشاکل التى يعانى منها المجتمع والاهتمام بالنواحى التطبيقية أکثر من النظرية. کما ينبغى تشجيع الدولة للاستثمار الخاص فى إنشاء المعاهد والکليات الخاصة وأن تعمل تحت إشرافها ضمانا لحسن سير العملية التعليمية على أکمل وجه لضمان إستمراريتها.
البديل السادس: على الجامعات والمعاهد العليا السعى نحو زيادة مواردها المادية من خلال تقديم البحوث والاستشارات وتنظيم البرامج التدريبية والاستفادة من دعم قدامى الخريجين لجامعاتهم والحد من الهدر وتشجيع أثرياء المجتمع على الهبات والتبرعات لتمويل التعليم.
البديل السابع: لابد من إعادة الدور الحيوى الذى يمکن أن تلعبه أموال الأوقاف فى تمويل التعليم العالى فى مصر، ففى أحد الدراسات نبهت إلى أهمية هذا الدور حيث تلعب أموال الأوقاف دوراً هاماً فى دعم وتمويل التعليم العالى فى عدة دول مثل: جامعة هارفارد الأمريکية حيث تغطى ثلث موازنتها السنوية من أموال الوقفيات الإقتصادية.
البديل الثامن: أن يکون هناک دور أکبر للمؤسسات الاقتصادية الوطنية فى تمويل التعليم بنسبة مئوية من أرباحها السنوية تعفى من الضرائب، مع فرض ضريبة إضافية على مفردات السلع إستهلاکية أو کمالية. ولاعتبارات العدالة الاجتماعية تستهدف هذه الضرائب شرائح أو مجالات استهلاک انتقائية. کما يمکن فرض رسوم تصاعدية على الخدمات التعليمية حتى يمکن للمجتمع أن يتحملها بشکل تدريجى، مع العمل على إعادة هيکلة الميزانية لصالح التعليم
البديل التاسع: الاعتماد على صيغ جديدة للتعليم، کالتعليم من بعد، والتعليم المفتوح والمناهج الإلکترونية، وهنا تحل الصورة التفاعلية بين الطالب والمناهج محل الصورة التقليدية للتعليم، إلى جانب تسويق خدمات التعليم العالى لإجتذاب الطلاب الوافدين وتسهيل إجراءات تسجيلهم فى الجامعات وإقامتهم.
البديل العاشر: السعى لتمويل التعليم الفنى والتدريب المهنى جزئياً بواسطة الحکومات، ولکن معظم التمويل يجب أن يأتى من الجهات المستفيدة، ومن الأمثلة المشهورة حول مساهمة الشرکات فى التعليم المهنى هو النظام المتبع فى ألمانيا، بحيث تمول الشرکات تکاليف التدريب فى الدولة وتنظم أوضاع الموظفين حسب إتفاقيات جماعية
ولقد منحت الحکومة المصرية الأولوية لتحسين قطاع التعليم حيث إن إجمالى نفقات التعليم بلغت حوالى 12.6% عام 2007، والإنفاق على التعليم کنسبة من الناتج المحلى الإجمالى أرتفعت من 4,8 % عام 2005 ولکنها إنخفضت إلى 3,7 % عام 2007. أما ما يخص قطاع التعليم العالى فلقد خصصت مصر 5,87 بليون دولار لخطة التعليم العالى لتغطى المرحلة من 2014 إلى 2022.
إنّ شبه القمع الذي يتعرض له القطاع الخاص ليس ظاهرة جديدة في مصر، لكنه تفاقم في السنوات الأخيرة. لم يثق الرئيسان السابقان أنور السادات وحسني مبارك في رجال الأعمال من القطاع الخاص، خشية أن تشكّل هذه المجموعة قوة سياسية مستقلة من شأنها أن تهدد قبضة الحكومة على السلطة. ولكن عندما أرغمت أزمات الديون الرؤساء على خفض انخراط الدولة في الاقتصاد، كان لا بدّ من انفتاحه على المشاريع الخاصة. أطلق السادات سياسة الانفتاح التي بدأت بإبعاد الاقتصاد عن اشتراكية الرئيس السابق جمال عبد الناصر. وأنشأ مبارك قطاعًا خاصًا مؤاتيًا،
وقائمًا على المحسوبية، وأكثر بروزًا في ولائه السياسي من ديناميته الرأسمالية. مع ذلك، وبالنظر إلى الماضي، لا يسع المرء إلا أن يشعر ببعض الحنين إلى الأوليغارشية التي قادت حملة التحديث المتواضعة في مصر في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. فبعد سبع سنوات من إطلاق برنامج صندوق النقد الدولي للعام 2016، ترزح البلاد تحت وطأة دين عام أكبر يبلغ حوالى 300 مليار دولار. حتى نظام المحسوبيات كان أكثر إبداعًا من الشركات العسكرية التي حرّرها عهد السيسي من القيود المالية.