بمناسبة يوم المسرح العالمي الذي يهل في 27 مارس من كل عام تذكرت رائدي الكوميديا في مصر: نجيب الريحاني وعلي الكسّار، وكيف اندلعت المنافسة بينهما في الثلث الأول من القرن العشرين،
ثم انحازت الأيام إلى الأول وسمت به إلى آفاق غير مسبوقة، بينما أطاحت الثاني وأذلته وطردته خارج المنافسة تمامًا.
ولد الريحاني في باب الشعرية بالقاهرة عام 1887 كما يؤكد ذلك الناقد الكبير كمال رمزي في كتابه (نجوم السينما العربية… الجوهر والأقنعة)،
بينما تشير مصادر مختلفة إلى أن علي الكسّار مولود في العام نفسه بحي السيدة زينب بالقاهرة. وقد افتتن الاثنان بفن المسرح، وعشقا الكوميديا بشكل خاص،
وأسس كل منهما فرقة مسرحية تحمل اسمه، وعرضت كل فرقة عشرات المسرحيات منذ نهايات العقد الثاني من القرن العشرين وبامتداد ربع قرن تقريبًا، وتمتع كل منهما بشهرة مدوية ونجاحات عظيمة… ولكن؟
في الوقت الذي حافظ فيه الريحاني على تفوقه في المسرح ثم السينما، لاحظنا تدهور أحوال الكسّار لدرجة أنه صار مجرد كومبارس متكلم في الأفلام.
لقد نادت السينما الرجلين عندما نطقت في مطلع الثلاثينيات، واستقبلتهما بترحاب شديد، ومنحت كل منهما البطولة المطلقة عدة سنوات،
لكنها حرمت الكسّار من هذه البطولة بداية من النصف الثاني من الأربعينيات حتى رحيله في 1957، إذ نجد اسمه مكتوبًا في ذيل القائمة في مقدمات الأفلام. تذكر معي:
(رصاصة في القلب/ 1944)، و(نرجس/ 1948)، و(أمير الانتقام/ 11950) و(قلبي على ولدي/ 1953).
في الوقت الذي ظل الريحاني أهم نجم في مصر كلها حتى رحيله المفاجئ في 1949، فاسمه في آخر أفلامه (غزل البنات) مكتوب قبل الجميع، نساءً ورجالا، وهم من هم:
ليلى مراد وأنور وجدي ويوسف وهبي ومحمد عبدالوهاب وسليمان نجيب إلخ.
ترى: ما السر في انحدار الكسار وسمو الريحاني؟ إنه الارتجال… لعنة الارتجال التي اتكأ عليها مسرح الكسار ومفهومه للفن،
إذ لم يجد علي الكسّار أي غضاضة في أن يخرج عن النص المكتوب ويدخل في (وصلة) ارتجال مع الجمهور تصل إلى نصف ساعة أحيانا، قبل أن يعود إلى النص الذي تتغير حواراته من يوم إلى آخر،
بينما الريحاني وقف موقفا صارمًا ضد منطق الارتجال، فالنص المسرحي عند الرجل يجب أن يتم التدريب عليه في البروفات عشرات المرات حتى ينضج ويكتمل بالحذف والإضافة والتجويد،
وما إن يعرض على الجمهور لا يجرؤ أي ممثل على الخروج على النص ولو بكلمة واحدة، وإلا تعرض للتوبيخ الشديد.
اللافت أنني سمعت فريد شوقي يقول إنه حاول أن يضيف بعض الجمل والمفردات عندما انضم إلى فرقة الريحاني في الستينيات ليلعب أدوار الريحاني نفسها،
لكنه أخفق تمامًا مؤكدًا أن عبقرية الريحاني جعلت نص مسرحية مثل (الدلوعة) بالغ الإحكام، فعجز فريد شوقي عن إضافة كلمة أو تغيير عبارة واحدة، علمًا بأن وحش الشاشة له حصة كبيرة في التأليف والكتابة.
أما النجم الكبير فؤاد المهندس فقد سمعته يحكي كيف كان يحضر وهو شاب بروفات مسرحيات الريحاني في وجوده،
وفي إحدى المرات أضاف عبدالفتاح القصري عبارة صغيرة لم تكن في النص، فانزعج الريحاني وكال له التقريع المناسب.
باختصار…. الفن، أي فن، عمل دقيق منظم منضبط حتى يحدث التأثير المطلوب في عقل المتلقي ووجدانه،
أما الارتجال، فيودي بصاحبه إلى زلات لا حصر لها، وقد تطرده من جنة النجومية إلى الأبد،
لذا ليتنا نتخفف في مجمل حياتنا من حمولة الارتجال، ونتعامل مع واقعنا وظروفنا بمزيد من الانضباط والدقة والحزم، أسوة بسيد الفنانين وأجملهم نجيب الريحاني.