(سامحني يا رب على ما فعلت بنفسي. لم أقو على تحمل هذه الصدمة بوفاة أعز وأغلى ما في الحياة عبدالحليم حافظ، فقد كان النور الذي أضاء حياتي، واليوم الخميس كرهت الحياة منذ اللحظة التي قرأت في الصحف خبر وفاته).
بهذه الرسالة الدامعة التي نشرتها الأهرام أنهت الطالبة أميمة عبدالوهاب محمد (21 سنة) حياتها بأن ألقت بنفسها من الطابق السابع في العمارة ذاتها التي كان يسكن فيها مطربها المعشوق.
الحق أنه ما من وفاة حدثت لمطرب مصري، أو عربي، سببت كل هذه اللوعة لدى شعب بأسره، لدرجة أفقدت طالبة مسكينة عقلها، فانتحرت من فرط الحزن.
ترى… ما السر وراء هذا الافتتان بحليم الذي رحل في 30 مارس 1977؟ عندي خمسة أسباب رئيسة تحاول تفسير ظاهرة أشهر مطرب مصري وعربي في القرن العشرين، سأوجزها توًا.
1- امتلك حليم صوتا حنونا دافئا واضح النبرات، صحيح أنه ليس بقوة صوت عبدالوهاب وتلاميذه أمثال:
محمد عبدالمطلب وعبدالغني السيد وكارم محمود وعبدالعزيز محمود ومحمد أمين ومحمد قنديل وجلال حرب وغيرهم،
إلا أنه تميز عنهم بجميعًا بصفاء الحنجرة وبساطة الأداء، الأمر الذي جعل من السهل على أي إنسان ترديد أغنياته.
2- اقتحم حليم عالم الفن مع عصر سياسي جديد، فقد تمكن عبدالناصر والذين معه من الاستيلاء على السلطة في يوليو 1952، فأسقطوا الملك وأنهوا حكم أسرة محمد علي غير المصرية الأصل، وطردوا الاحتلال الإنجليزي الذي ظل يذل البلاد والناس 74 عامًا متواصلة، ثم أعادوا توزيع الثروة بشكل أكثر عدلا، مع فتح الباب لتعليم الملايين بالمجان.
في هذه الأجواء المترعة بشلالات متدفقة من التحولات الاجتماعية برق المطرب الشاب حليم بصوته الدافئ وجسده الضئيل وملامحه الطيبة ليعبر عن المزاج العاطفي العام لطلاب الجامعات الذين فتح لهم عبدالناصر باب التعليم الجيد بالمجان.
3- لعب حليم دور الطالب الجامعي أو الذي تخرج حديثا في الجامعة في نحو 14 فيلمًا من 15 فيلمًا وثلث الفيلم قدمها حليم على الشاشة في الفترة من 1955، حتى 1969.
أي أن كل أفلامه كانت في عهد ثورة يوليو. والفيلم الوحيد الذي لعب فيه دور (كهربائي)، وهو فيلم (دليلة/ 1956) لم يحقق النجاح المأمول.
ولما قلت هذا الكلام للنجم الراحل سمير صبري في لقاء تليفزيوني وافقني الرأي ثم أضاف: أن معظم أغنيات هذا الفيلم (مش حلوة).
لاحظ من فضلك أن المطربين الذين سبقوا حليم تقمصوا أدوار صبي بقال ومكوجي وعجلاتي وسائق تاكسي وبائع “حب العزيز” (كارم محمود ومحمد فوزي وعبدالعزيز محمود).
4- رافق حليم كوكبة شابة موهوبة من الشعراء والملحنين أمثال سمير محجوب ومرسي جميل عزيز وعبد الرحمن الأبنودي ومحمد حمزة وكمال الطويل ومحمد الموجي وبليغ حمدي ومنير مراد وغيرهم، فكتبوا كلمات جديدة، وابتكروا نغمات أكثر عمقا وعصرية أطربت آذان الأجيال الشابة وأسعدتهم.
5- انتمى حليم بكل طاقته الصوتية وذكائه المذهل إلى تجربة عبدالناصر بأحلامها العظيمة وانكساراتها المؤلمة، مثل غالبية المصريين، فتوحد مع الناس بأغنياته الوطنية الصادقة، وتوحد معه الناس بعواطفهم الجياشة.
لكل هذا، فقدت أميمة رشدها حين رحل حليم، فقررت الرحيل معه.