لماذا تعامل عبدالحليم حافظ مع الشعر بمحبة كبيرة وتقدير عظيم؟ فأنشد وغني نحو ثلاثين قصيدة بالفصحى، علمًا بأن نصيب حليم في بنك الأغاني يزيد عن 250 أغنية،
الأمر الذي جعله يتبوأ المكانة الثالثة، فيما أظن، في الحفاوة الغنائية بالشعر بعد عبدالوهاب وأم كلثوم.
الحق أن الرجل ابن وفيّ من أبناء ثورة 1919 التي عززت شعور المصريين بوطنهم من جهة، ودفعتهم دفعًا لتطوير أنفسهم في المجالات كافة من جهة ثانية، والفن في قلب هذه المجالات بطبيعة الحال،
فمع منتصف العشرينيات ارتقى عبدالوهاب وأم كلثوم بكلمات الأغاني التي يرددونها، إذ كانت تشيع قبلهما أغنيات محشوة بعبارات فجة بالغة الركاكة مثل :
(ارخي الستارة اللي في ريحنا للمطرب عبداللطيف البنا، والحب دح دح والهجر كخ كخ لمنيرة المهدية)! لكن الأمر تبدل بصورة جذرية حين شدا عبدالوهاب بقصائد شوقي وأمين عزت الهجين وترنمت أم كلثوم بأشعار أحمد رامي وبيرم التونسي.
لذا لا عجب ولا غرابة أن تكون قصيدة (لقاء) هي أول أغنية سجّلها عبدالحليم للإذاعة عام 1951، فقد تذوقت أذناه وهو صبي وفتى وشاب صغير القصائد التي أنشدها عبدالوهاب منذ العشرينيات حتى نهاية الأربعينيات،
فافتتن بياجارة الوادي وخدعوها بقولهم حسناء وجفنه علم الغزل وأعجبت بي وسهرت منه الليالي والجندول وكليوباترا والكرنك ومضناك جفاه مرقده وقالت وهمسة حائرة وغيرها،
ومن المؤكد أن عبدالحليم رددها مع نفسه وأمام أصدقائه متباهيًا بمهاراته الصوتية. أما قصيدة (لقاء) هذه، فقد كتبها صديقه الشاعر صلاح عبدالصبور، الذي كان في العشرين من عمره ساعتها، بينما بلغ حليم الثانية والعشرين إذ ولد في 1929.
ولكي تتيقن من إعجاب حليم باللغة الفصحى وعشقه لها، تذكّر أن آخر ما صدحت به حنجرته الآسرة كانت قصيدة (قارئة الفنجان) التي كتبها شاعر سوريا الكبير نزار قباني، وشدا بها حليم في ليلة شم النسيم من سنة 1976،
ومازلت أذكر جيدًا كيف فرحت بها كثيرًا، وأنا في طور الصبا آنذاك. وبعد أقل من عام غاب حليم عن دنيانا (رحل في 30 مارس 1977).
تعال أقصص عليك نبأ بعض القصائد التي ترنم بها حليم في النصف الأول من خمسينيات القرن الماضي، حيث يبدو أن الكثير منها لم يرسخ في ذاكرة الأجيال الجديدة، خذ عندك:
(ربما/ لا تلمني/ يا ضنين الأمس/ الأصيل/ أقبل الصباح/ أنت إلهام جديد/ الجدول/ ربيع شاعر/ نشيد العهد الجديد دويتو مع المطربة عصمت عبدالعليم/ يا ليالي الغرام) وغيرها.
ولما وقع العدوان الثلاثي عام 1956 هتف عبدالحليم (إني ملكت في يدي زمامي)، ثم توالت قصائده بعد ذلك، أذكر منها :
(لست أدري التي غناها عبدالوهاب في فيلم رصاصة في القلب 1944، وأعاد حليم غناءها في فيلمه الخطايا 1962/ حبيبها/ لست قلبي/ يا مالكا قلبي/ رسالة من تحت الماء).
المدهش أنه على الرغم من أن عبدالحليم حافظ رحل في مثل هذه الأيام قبل 47 عامًا، إلا أن صوته الحنون مازال يجذب الكثير من الأجيال الجديدة، حيث لاحظت أنهم ينصتون إليه بتركيز وينفعلون بما جادت به حنجرته من أغنيات عاطفية متأججة مثلما انفعل آباء لهم من قبل.
وهكذا إذن يثبت تاريخ عبدالحليم مع الغناء أنه على الرغم من أن حضوره ترسخ في الذائقة الوجدانية للملايين بوصفه مطربًا يترنم باللهجة العامية القاهرية تحديدًا، إلا أنك لاحظت أن نصيبه من الشعر العربي متفرد وجميل.
وأخيرًا… كلما هلت ذكرى حليم تذكرت بحنين جارف شقيقي الأكبر الراحل المرحوم فوزي عبدالفتاح عراق (1953/ 2004) الذي علّمني كيف أنتبه إلى عبقرية حليم في الغناء والذكاء والدأب من أجل الإمساك بأهداب المجد.