كان علي أن أرافقهم للكشف عن الجثة المستريحة في تابوتها الخشبي والمتدثرة بأكفانها البيضاء كوليد حديث العهد،
جانبت صندوق الموت والجمع العشائري يحيط بي وبه ينتظر مني تحرير شهادة الوفاة ، طلبت منهم إزاحة الكفن عن الوجه والصدر، ففعلوا ،تأملته ، رجل في العقد السادس ، بذقن نام للتو لم يمهله الوقت لحلقه، وشعره الفضي تنتفض فيه بعض الشعيرات السوداء معلنة تمردها على سن الستين.
سألت:
_ هل هناك أمراض مزمنة كان يعانيها؟
_كلا لاشيء، إنه موت مفاجئ
وحسب التعليمات فإن من يغادر الحياة من بعد الستين من العمر بلا حادث أو ماشابه نقيد سبب وفاته تحت بند (الشيخوخة ومضاعفاتها).
تركتهم واستدرت متجهة نحو غرفتي وقراري بأن سبب الوفاة
( الشخيوخة) هو ماحسمت أمري عليه.
لكن صوتا تتكسر فيه العبرات همس في أذني
_وهل يشيخ الشعراء؟!
أتتركين قتلتي وتتهمين بريئة !
التفت وكل مفاصلي تضرب بعضها ،فوجدته قد تعرى من أكفانه ، واقفا خلفي ، بذقنه النامي وتورد وجنات كانت قبل لحظات ترتدي شحوب الموت.
تسلل البرد إلى أحشائي ،مذعورة سألته:
_كيف، أتقول قد تم قتلك، لكن لم أر أثرا لطلق ناري أو طعنة آلة حادة ولم تمت بحادث!
_الطعنات في روحي
حبيبتي قتلتني،زوجتي قتلتني، أولادي قتلوني، الخيبات ذبحتني.
سارعت الخطا محاولة إقناع نفسي بأنني بدأت أهلوس بفعل مشهد الموت والجثة والتابوت.
جلست إلى مكتبي وبدأت املأ حقول شهادة وفاته
وصلت إلى حقل سبب الوفاة
فتصلبت أصابعي ،حاولت تحريكها لكن كفه كانت تقبض على كفي بقوة ، رفعت رأسي فوجدته قبالتي، كان ينظر إلى عيني وذكريات أسد في قفص يحلم بالغابات والبراري والصيد تنساب من عينيه
قال:
ماذا عن الخيبة الأولى،تلك التي عشقتها وكتبت القصائد في عينيها ثم أبدلتني بثري تافه لايتذكر لون عينيها ولا عطر اشتياقها، أليست سببا للوفاة! ماذا عن غربتي وأنا أعيش مع زوجة تتعطر كل ليلة بسخريتها مني ،من الشعر من البحر من القصائد،توقد التنور بدواوين أشعاري كلما تشاجرنا فاعتزلتها واعتزلتني ،عشنا كغريبين في محطة للقطار . هل أنت شاعر،أقصد هل كنت شاعرا؟
كنت ومازلت أستحم بالندى وأتنفس بلل الفجر ،أتعطر برذاذ الغسق وأنظم أبياتا لكواكب السحر قصيرة الأعمار التي تختبئ فجرا لتولد في سحر جديد ،ألم تسمعي فيروز وهي تقول(تعا عم نتخبا من درب الأعمار واذا هني كبروا نحن بقينا صغار) ياسلام ميت للتو ومزاجك عال تغني وأهلك يهيلون الثرى على جسدك الآن ، اي نعم سمعتها لكن أرجوك أبتعد عني فسيظن الناس الآن بأنني مجنونة أحدث نفسي.
_الغربة ،الوحدة الإنكسار أليسو سببا للوفاة؟!
جحود أبنائي وجحيم دنياي، أكتبي سبب الوفاة
(الخذلان ومضاعفاته).
لاأستطيع ،ستتم معاقبتي إن خالفت القانون ،العالم مادي لايعترف بجراح الروح بل بتلف الجسد. تجاهلته ،أكملت شهادة وفاته وسبب الموت(الشيخوخة ومضاعفاتها)،سلمتها لذوويه ،فحملوا الجثة وساروا بها نحو أرض الأموات . لم يرافق جسده ، تركه يرحل،ظل يحدق في وجهي بنظرة عتاب. سرت مبتعدة وأنا أقرأ المعوذتين في سري عل شبحه يختفي. كان يوم عملي طويلا،فأنا طبيبة تحت التدريب في عامي الأول ،والليلة مناوبتي في صالة الولادة. دخلتها فصمت أذني صرخات شابة تلد مولودها الأول ،سمعته يقول: أحمق ،يقاتل من أجل الخروج إلى حياة تافهة ، هو يتصور أن عالمنا رحيم دافئ كرحم أمه ، لكن كف صلب سيتلقاه على ظهره بحجة الترحيب به سيجعله يصرخ ،إننا نبدأ حياتنا بصرخة ،بالبكاء ،صرخة تقول لقد تم خداعنا.
صحت به:
كان عليك أن ترحل مع جسدك ،أي شبح ثرثار أنت ،ثم ممنوع أن تدخل صالة الولادة ،الدخول ممنوع على الرجال. لكني لست رجلا، أنا روح حرة،تجاوزت مرحلة الإنكسار،أحلق كيفما أشاء وأينما أشاء أيتها المعقدة.
_قف أذن عند رأس المرأة ولاتقف هنا عند قدميها ،لايجب أن ترى شيئا مما يحدث أثناء عملية الولادة .
بخفة الشبح وبابتسامة ساخرة وجدته نابتا عند رأسها.
اشتد ألم الطلق على الشابة فصرخت بأعلى صوتها
(انعل ابوك لابو الخلفك الله ينتقم منك كلها من وراك انت السبب)
كانت تقصد زوجها طبعا.
كتمت ضحكة كادت أن تمزق بطني فالمرأة لم تجد سوى زوجها الذي منحها طفلا لتشتمه وتدعو عليه في ساعة استجابة الدعاء ساعة الطلق
نظرت إلى الشبح الثرثار فوجدته قد رفع كفيه نحو السماء وهو يردد خلف المرأة (آمين)
انتظرت حتى انزلق الطفل خارج قناة الولادة فاستقبلته ذراعا الممرضة التي ألقمت ظهره كفا سمينا ثقيلا حتى صرخ صرخته الأولى ،فسحبت شبحي من كفه وخرجنا وأمام باب صالة الولادة الذي أغلق خلفنا انفجرنا بضحكات كنا قد كتمناها ، ضحكات على حياة وعالم يسير كل شيء فيه بالمقلوب.