لا أخفي إعجابي واستمتاعي الكبيرين، كلما عاودت قراءة الترجمة الرصينة، التي قام بها الراحل العظيم جابر عصفور، لكتاب اديث كيرزويل “عصر البنيوية”، لكن ما استوقفني هو عنونة الفصل الأول من جانب مؤلفة الكتاب؛ فهي إذ تلقي الضوء على الجهود الفكرية والعلمية لثمانية من أقطاب الاتجاه البنيوي، على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وأثر ذلك في النقد الأدبي والفنون بعامة، وهم حسب ترتيب فصول الكتاب: كلود ليفي شتراوس، ولوي التوسير، وهنري لوفيفر، وبول ريكور، وآلان تورين، وجاك لاكان، ورولان بارت، وميشيل فوكو، تعنون فصلها الأول: “كلود ليفي شتراوس: أبو البنيوية”.
وتتتبع في الفصل الأول الخاص بشتراوس مسيرته العلمية ونبذة عن أعماله وقراءة في فكره البنيوي، مشيرة إلى لقائه رومان ياكبسون أحد أبرز رواد الاتجاه البنيوية الشكلي في أمريكا في ذلك الوقت، وتأكيدها على أثر ياكبسون فيه، وبعدها أصدر شتراوس كتبه “الأبنية الأولية للقرابة” في العام ١٩٤٩، ثم “الدراسة البنيوية للأسطورة” (١٩٥٥)، و”المدارات الحزينة”(١٩٥٥)، ثم “الفكر الوحشي” (١٩٦٢)، و”أسطوريات”، بمجلداته الأربعة (١٩٦٤-١٩٧١).
وإذا تأملنا نشأة الشكلانية الروسية، بحلقتيها: حلقة موسكو، اللسانية (١٩١٥)، وحلقة سان بطرسبورغ (ليننجراد)، والتي يطلق عليها أوباياز opiaz، بروادهما أمثال: فيكتور شكلوفسكي، رومان ياكبسون، وبوريس إيجنباوم، وبوريس توماشفسكي، وفلاديمير بروب، بالإضافة إلى طلاب الدراسات العليا والباحثين، فيمكننا القول إن إطلاق مصطلح “أبو البنيوية” على ليفي شتراوس تعوزه الدقة لعدة أمور، منها:
أولًا: حديث المؤلفة عن لقاء شتراوس بياكوبسون الذي قاده إلى الاهتمام بعلم اللغة البنيوي، وإشارتها في هامش الدراسة إلى بعض الدراسات التي تقول: ” لقد أصبح تأثير أسلوب ياكبسون في التحليل الفونيمي على ليفي شتراوس معروفًا تمامًا..ويحدد ناعوم تشومسكي الأهمية القصوى التي احتلتها نظرية ياكبسون عن الملامح المميزة والكليات الفونيمي بالنسبة إلى ليفي شتراوس”. ويضاف إلى ذلك إقرار ليفي شتراوس نفسه، مرارا وتكرارا، بأثر ياكبسون في عمله، كما فعل في تقديمه كتاب ياكبسون ” ست محاضرات عن الصوت والمعنى”.
ثانيًا: صدور كتاب فلاديمير بروب ” مورفولوجيا الحكاية الخرافية” في العام ١٩٢٨، والذي درس فيه الأجزاء التي تتكون منها بنية الحكاية والعلاقات بينها والقوانين التي تحكمها، فيتم التركيز على الوظائف في الحكاية والخصائص البنائية لهذه الحكاية، منتهيا إلى تحديدها في إحدى وثلاثين وظيفة تتكرر في أغلب الحكايات، مجتمعة في نظم ثنائية، كالتحريم وارتكاب المحرم، والسؤال والإعلام، والمطاردة والمعركة والنصر، والمطاردة والإنقاذ…. إلخ.
ثالثًا: لا يمكن إغفال جهود دي سوسير واتكاء جل المناهج النقدية الحديثة عليها، كالسيميولوجيا والبنيوية وغيرهما، ثم قراءة ياكبسون واستيعابه، في فترة باكرة، مثله مثل سائر الشكلانيين الروس والبنيويين، لإشارات سوسير والانطلاق منها والبناء عليها، وهو ما أشار إليه روبرت شولز في كتابه “البنيوية في الأدب”.