إخواني الكرام، السلام عليكم ورحمة الله، كنا قد بدأنا في كيفية الثبات على الحق حتى الموت، وبدأنا الوقفة الأولى بالثبات على العمل والعبادة، وهذه هي الوقفة الثانية من الناحية العلمية. فأقول مستعينا بالله تعالى:
ثانيًا: الثبات على الحق من الناحية العلمية
أولا: أن توقن بأن البشر لا يمكن أبدا أن يصلوا إلى الحق في العقيدة والشرائع والأخلاق من تلقاء أنفسهم.
-ولذلك قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾.
-والدليل القطعي الواقعي: هو اختلاف البشر جميعًا في كل شيء، في وجود الله، وفي صفاته وفي تعدده، وفي البعث، وفي الشرائع التي يتحاكمون إليها، وفي الأخلاق، والنظريات السياسية، والفلسفية، والاقتصادية، والاجتماعية، والتربوية.
-والسبب الرئيس في هذا الاختلاف، هو اتباع البشر لأهوائهم، والأهواءُ مختلفة، وكذلك العقول مختلفة، والنفوس البشرية مختلفة، ويتحكم فيهم الجهل والميل إلى الظلم والطغيان، كما قال تعالى: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى﴾.
-وكما قال تعالى: ﴿وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾.
-وكما قال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾.
-ولذلك قال تعالى: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾.
ثانيًا: اعتقاد أن الهدى والحق والنور متعلق باتباعِ وحي الله تعالى، وأن الضلال والغي والجهل في البعد عن الوحي واتباع الهوى.
-قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾. في العقيدة والشريعة والأخلاق.
-وقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.
-وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي﴾.
-وقال تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾.
ثالثًا: الإيمان المطلق بصفات الله تعالى الجامعة للتوحيد، والتسليم التام لله سبحانه وتعالى في خبره وحكمه. -كما قال تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾.
وهذه الصفات هي: مالك الملك، والمهيمن على الكون كله، فلا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن إلا بمشيئته وعلمه، العلم المحيط بكل شيء، والقدرة التامة على كل شيء، والسمع، والبصر، والحكمة، والرحمة، والعدل التام المطلق المنافي للظلم، وأنه لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون.
-والعلم بهذه الصفات له ثلاث طرق:
الطريق الأول: النظر في الكون وتنوع المخلوقات بشكل لا يمكن حصره: فهذا يؤدي قطعًا إلى أن الخالق لا بد أن يكون متصفًا بهذه الصفات السابقة وغيرها من صفات الكمال والجلال.
ولذلك قال الله تعالى:﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾.
الطريق الثاني: النظر في معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم المادية، وما أخبر به من أمور الغيب، وهي بالمئات.
-مثل إخباره صلى الله عليه وسلم، بمقتل عمر وعثمان، عندما اهتز بهم جبل أحد، وكان معه َأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، فَقَالَ: «اثْبُتْ أُحُدُ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ، وَصِدِّيقٌ، وَشَهِيدَانِ».
وأخبر عن تفرق الأمة من بعده، وبين مدة الخلافة الراشدة، وصلح الحسن مع معاوية رضي الله عنهم جميعًا، وإخباره بكثرة النساء، ورفع العلم، وشرب الخمر، وكثرة القتل في الأزمان التالية، وغير ذلك في مئات الأخبار التي وقعت في زمنه وبعده إلى يومنا هذا وما بعده.
ومن الأمور المادية: نبع الماء من بين أصابعه، إطعام 1200 رجلا من أصحابه في غزوة الأحزاب من شاة صغيرة، وتسبيح الحصى في يد النبي صلى الله عليه وسلم، واستجابة الله له في الحال عندما دعا بنزول المطر، وعندما دعا بإيقافه، وعندما دعا بشفاء عين علي وأبي قتادة، وعندما تاهت ناقتُه، عندما قال بعض المنافقين: أليس محمد يزعم أنه نبي، ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن رجلا قال: هذا محمد يخبركم أنه نبي، ويزعم أنه يخبركم بأمر السماء وهو لا يدري أين ناقته، وإني والله ما أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها، وهي في هذا الوادي.
وغير ذلك من عشرات الأمثلة، وكل هذه الأحداث ثابتة ثبوتًا قطعيًّا لا مجال للشك فيها.
-فكل معجزات النبي صلى الله عليه وسلم تدل على صدقه في ادعاء النبوة، ثم تدل على قوة الله تعالى وعلمه وسمعه وبصره وقدرته وعلمه وحكمته، وغير ذلك من الصفات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ينسب هذه الأفعال لله تعالى وليست لنفسه.
الطريق الثالث: ما ورد في القرآن الكريم من صفات الله تعالى، وهي كثيرة جدًّا، وخصوصًا في السور المكية.
وبناء على ما سبق من الإيمان بصفات الله تعالى، نخرج بالآتي:
أولا: أن أفعال الله سبحانه في الكون صادرة عن هذه الصفات المقدسة، وأنه لا يفعل شيئا عبثًا، أو ظلمًا، أو عن نسيان أو غير ذلك من صفات البشر.
ولذلك قال تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾.
وقال تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
-وقال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾.
-ثانيًا: أن حكم الله تعالى وشريعته الله متصفة بالعدل والرحمة والحكمة والعلم والخبرة والعدل.
-قال تعالى: ﴿تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾.
-وقال تعالى: ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾.
-وقال تعالى: ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾.
-وقال تعالى: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾.
ولذلك قال تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾.
ثالثًا: بناء الشريعة لمصلحة الخلق في الدنيا والآخرة.
-فكلُّ حكم منها، إما لجلبِ نفعٍ أو دفعِ ضُرٍّ، في الدنيا والآخرة.
كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾.
-ويجمع مصالح الخلق في الدنيا والآخرة خمسة أمور وما يتبعها، وهي:
-الحفظ على الدين.
-الحفظ على النفس.
-الحفظ على العرض.
-الحفظ على العقل.
- الحفظ على المال.
-فكل ما يؤدي للحفاظ على هذه المصالح الخمسة شرعه الله تعالى.
-وكل ما يؤدي إلى إفساد شيء من هذه المصالح الخمسة نهى الله عنه وحرمه.
-ولكي تعلم محاسن الشرع، افترض أن الله تعالى لم يشرع حكما معينا، فماذا ستكون النتيجة العملية على الفرد والمجتمع؟
-مثل: أن الله لم يفرض الزكاة والصدقات، أو أنه لم يشرع قانونًا للمواريث، أو أن الله لم يفرض الحجاب على المرأة، أو أنه لم يحرم الخلوة بالأجنبية، أو أن الله لم يفرض قطع يد السارق، أو لم يحرم الغصب والظلم، أو لم يشرع احترام الكبير، وكفالة اليتيم والفقير، وغير ذلك من الأحكام.
فماذا ستكون النتيجة العملية على الفرد والمجتمع؟
رابعا: أن أقوال الرسول وأفعاله هي أكمل الهدي، وأحسنُ السنن، وهي الفيصلُ والمرجع في بيان الحق وبيان الصواب، وأن ما خالفها فهو باطل وجهل، وغي وفساد.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ». رواه أبو داود، وهو حديث صحيح.
فترى في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما أرشدنا إلى الخروج من الخلاف أن نرجع إلى سنته قولا وفعلا، ولم يَرُدَّنا إلى كتاب الله تعالى، لأن هناك بعض الآيات المتشابهة، أو المنسوخة، أو المطلقة وتقييدُها في السنة، أو العامة ومُخَصِّصُها في السنة.
فالسنةُ هي المرجع النهائي لبيان الحق في العقيدة والعمل، وهي التي فعلَها النبي صلى الله عليه وسلم ومات على ذلك، فالمتمسك بها متمسكٌ بعملِ النبي وقولِه صلى الله عليه وسلم. والله الهادي إلى سواء السبيل.
، مدرس الشريعة بكلية دار العلوم ج القاهرة