تعارفنا الفنان المتفرد خالد الصاوي وأنا قبل 35 عامًا تقريبًا، فازدهرت بيننا أشجار المودة والصداقة والاحترام، ومازالت.
بدأت الحكاية عندما اشتركنا معًا بالتمثيل في مسرحية (سكة السرايا الصفرا) التي أخرجها الفنان الكبير المرحوم بهائي الميرغني، بعد أن أعدّها عن مسرحية (جاك) لأوجين يونيسكو.
قدمت المسرحية عام 1988 في وكالة الغوري فرقة (الطيف والخيال) والتي كنت أحد مؤسسيها، إذ تعتمد الفرقة إحياء فنون الأرجواز وخيال الظل.
وكان هذا العرض هو الثاني لها، حيث شارك في بطولته الفنان الكبير يوسف إسماعيل مدير المسرح القومي السابق والفنانة المتميزة عزة الحسيني وفنان الأراجوز الرائع ناصر سالم والكاتب الموهوب جمال صدقي والشاعر محمد منير (جميعنا كنا شبابًا متحمسًا في ذلك الوقت).
المهم… في أثناء البروفات، انطلقت الحوارات بيني وبين خالد، إذ جمعنا عشق الأدب والفن والشغف الشديد بتغيير العالم إلى الأجمل.
ومن لا يعلم، فخالد شاعر موهوب أصدر ديوانين في التسعينيات أذكر الأول وكان ذا عنوان لافت هو (نبي بلا أتباع)، كما أنه يكتب القصة القصيرة بذكاء شديد.
وفي عام 1990 أسس كل منا فرقة مسرحية من الشباب، فاخترت لفرقتي اسم (تمرد) واختار خالد لفرقته اسم (الحركة).
واشتركنا في مهرجان المسرح الحر الأول الذي أقيم في اكتوبر 1990 بدار الأوبرا، فعرضنا أعمالنا على المسرح المكشوف.
في عام 1993 هجرت التمثيل والإخراج المسرحي نهائيًا، وتفرغت للكتابة الروائية والصحافة والرسم، بينما واصل خالد معركته مع فن التمثيل بدأب شديد،
وقد ظلت العلاقة بيننا تزداد توهجًا، فكنا نتبادل الكتب ونتناقش في قضايا الوطن والفن والإبداع، ولما غادرت القاهرة إلى دبي عام 1999 حرص كل منا على التواصل بالوسائل التكنولوجية الجديدة،
وحين عرض عام 1999 فيلم (جمال عبد الناصر) الذي لعب فيه خالد دور الزعيم، التقينا في القاهرة في أثناء إجازتي وكان حزينا، لأن الفيلم لم يحقق النجاح المأمول، فاحتضنته وقلت له:
(إنك ممثل ممتاز يا خللوود، وليس العيب في أدائك، وإنما قد يكون في الكتابة والإخراج).
ولما قام بدور رئيس التحرير الشاذ في فيلم (عمارة يعقوبيان) سألته باهتمام: (كيف تمكنت من أداء هذه الشخصية بتلك البراعة)، فضحك وذكرني بأحد المسؤولين الكبار وقال لي بثقة:
(هل تذكر كيف كان فلان هذا يحرّك يده بشكل أنثوي، فهذا الشخص أحد المصادر التي استلهمت منها الطبيعة الخارجية للشخصية)،
وغرقنا في الضحك ونحن نستعيد لقاءاتنا مع المسؤول إياه، وكنا ساعتها نتناول الشاي في كافيتريا بفندق الهيلتون.
عندما أصدرنا مجلة (دبي الثقافية) سنة 2004 دعوت خالد للكتابة فيها، فاستجاب، فنشرنا له قصائد ودراسات في الفن بالغة العمق،
كذلك قمنا في المجلة بتكريمه عام 2009 مع نخبة من كبار مثقفينا ومبدعينا في العالم العربي أمثال أدونيس وحجازي وسيف الرحبي وأحمد الشهاوي وأمجد ناصر وإبراهيم الكوني وأحمد فضل شبلول ومصطفى عبدالله وأشرف أبو اليزيد وغيرهم،
وقد دعوت خالد مع أمجد ناصر وجلسنا في أحد مقاهي دبي بشارع الشيخ زايد لينطلق حوار فكري ثقافي ممتع للغاية استمر حتى الثانية صباحًا .
أذكر مرة أنه اتصل بي من القاهرة طالبًا مني إعداد أمسية شعرية له في الإمارات، وبالفعل قمت بالترتيب مع الدكتور عمر عبد العزيز رئيس النادي الثقافي العربي بالشارقة وأدرت له الأمسية التي حضرها جمهور كبير،
فقد حقق خالد في ذلك الوقت نجومية لافتة، وداعبني بأن وصفني في اللقاء قائلا: (ناصر عراق ملاكي الحارس)،
ولما انتهينا اصطحبته مع أسرتي لتناول العشاء في مطعم (أبو علي) بدبي، فقد كنا هو وأنا نشعر بجوع شديد، لكن رواد المطعم لم يتركوه يتناول طعامه بهدوء، بل ظلوا يتوافدون على مائدتنا لالتقاط الصور الشخصية معه بالموبايل،
وكان مهذبًا معهم ولطيفا رغم أن (عصافير) بطنه كانت تزقزق!
سألته آنذاك: (ألا تزعجك الشهرة؟)، فابتسم وقال: (يا نصوووور.. لا تنس.. لقد عشنا عشرين عامًا في الظل).،
وبالمناسبة فخالد هو الوحيد من أصدقائي الذي يدللني فيخاطبي هكذا (نصووور)، وبالمثل فأنا أناديه دومًا يا (خللوود)،
ولما غلب النوم ابني الصغير باسم في هذا المساء، حمله خالد بينما أمسكتُ بيدي ابني عمر وهديل لنعبر الشارع حتى نصل إلى السيارة.
أذكر مرة كذلك أنه تواصل معي تليفونيا قبل سنوات قائلا لي باعتزاز: (لقد رفضت إعلانا تليفزيونيًا الآن بمبلغ نصف مليون جنيه، فأنا فنان يا نصوور ولست مروّج سلع)،
فاحترمت موقفه، وشجعته، ولما اندلعت ثورة يناير المجيدة كان خالد من أوائل الذين نزلوا ميدان التحرير مع الثوار مدججًا بأفكار وآراء تواكب هذا الحدث التاريخي وتطور إمكاناته، فهو دائمًا ينحاز إلى العدل والحرية والإنصاف.
كما أذكر جيدًا أننا كنا نتناول غداءنا ذات ظهيرة في مركب (فرح بوت) بالجيزة، وهو المركب نفسه الذي كان نجيب محفوظ يلتقي فيه أصدقاءه في الأيام الخوالي.
حدث ذلك قبل 13 سنة تقريبًا، فسألته: (لماذا لا تتزوج يا خللود؟)، فقال وهو يلتهم المكرونة السباجتي: (أنت تعرف أنني خطبت ثلاث مرات، ولم أوفق، فنسيت هذا الأمر)،
فعقبت سريعًا: (أرجوك يا خالد… حاول مرة أخرى، ولا تحرم نفسك من لذة الأبوة، فهي لذة لا مثيل لها، ولا أعرف كيف أصفها).
آنذاك… توقف برهة عن الأكل، وشرد قليلا، وقال بأداء غامض مشوب بالتوق إلى الذرية: (ربما يا نصوور… سأحاول… الله أعلم)، وقد تعطر قلب خالد بعدها بزوجة طيبة محبة.
وقد أكرمني مرة وطالب جمهوره على فيسبوك بقراءة ما أكتبه من مقالات على صفحتي بعد أن (شيّر) لي أحدها مشكورًا.
يبقى أن أشير إلى أن عبقرية خالد الصاوي في التمثيل تعود إلى موهبته الطاغية في المقام الأول، لكن هذه العبقرية، وهذا أمر بالغ الأهمية، تتكئ على منظومة ثقافية رفيعة،
فخالد مثقف كبير بحق، فهو قارئ نهم، يتمتع بعقل نقدي حاد، فإذا تحدثت معه في تاريخ مصر أضاء لك مناطق مجهولة راجيًا منك قراءة جمال حمدان وابن إياس والمقريزي والجبرتي ورؤوف عباس وصلاح عيسى،
وإذا سألته عن فنون التمثيل ومدارسه ذكر لك تصورات ستانسلافيسكي وبيتر بروك وغيرهما، وإذا تناقشت معه عن الثورة وقوانينها أفاض في شرح ما جرى من ثورات شعبية في فرنسا وروسيا والصين،
ذاكرًا لك أفكار ماركس ولينين وتروتسكي وجيفارا وجرامشي منتقدًا بعض معتقداتهم ورؤاهم،
وإذا مال الكلام نحو الشعر والرواية تحدث بمحبة عن شوقي والسياب ونزار وصلاح عبد الصبور وحجازي ودرويش ومحفوظ وبهاء طاهر ماركيز،
أما إذ كنت من عشاق الموسيقى والغناء مثلي، فستجد لدى خالد الصاوي ما يشجيك ويسعدك، فهو عليم بتاريخنا الموسيقي، كما أنه عازف عود جيد ومؤدي متميز لأشهر الأغنيات!
هذا البوست في محبة العزيز خالد الصاوي بعدما شاهدت أداءه الرفيع في الثلاث حلقات الأولى من (القاهرة: كابول) مع الأساتذة الكبار طارق لطفي وفتحي عبد الوهاب وحنان مطاوع.
وقبل أيام تواصل معي خالد من القاهرة ليبلغني أنه بصدد تنظيم ورشة تمثيل في دبي قريبًا حتى نلتقي، فأسعدني الخبر ، وقلت له بفرح: في انتظارك يا فنان.
ويا صديقي (خللوود) وحشتني.