يقولون في الغرب أن الحياة تبدأ بعد الستين..يستفيدون من حصاد خبرات وأموال لإدراك ما فاتهم عبر مراحل التكوين..يسافرون..يبدعون..
ينطلقون..وللأسف مازالت الشيخوخة عندنا سجن تعني الوحدة والإنزواء في انتظار الرحيل .
**قبل رحيل الكاتب والمفكر والأديب الكبير توفيق الحكيم. سجل عصارة تجريته وأبرز محطات حياته فى كتاب<سجن العمر>..يبحث عنقود الإبداع منذ يوميات نائب فى الأرياف.. مروراً بحمار الحكيم.. وعودة الروح «أيقونة ثورة 23 يوليو 1952م» حتى السلطان الحائر.. ويا طالع الشجرة.. التى أثبت فيها قدرة المبدع المصرى على المنافسة بقوة فى أحدث صيحات الأدب خلال النصف الأخير من القرن العشرين ونعنى به أدب اللا معقول..
وجاءت قدرة الحكيم وتمكنه فى التقاط الموضوع وإثارة علامات الاستفهام والحوار فى بركة الآدب.. لتضعه فى مكانة متميزة وسط عظماء العصر الحديث.. أعماله خاصة المسرحية منها..صالحة دائماً للمعالجات المبتكرة والرؤية المتجددة.. جنباً إلى جنب مع أعمال شكسبير وحتى بيكت وريخت.. لا يستغنى عنها الباحثون.. ويفضلها المخرجون وينتظرها الجمهور والمثقفون.
**وظل كتابه «سجن العمر» الثمرة الأخيرة فى شجرة إبداع الحكيم نموذجاً لأدب المذكرات قابلاً دوماً للدروس وعلامات الاستفهام ومعها على طريق أدب المذاكرات.. أمس واليوم.. وغداً. ..شهادة حق عن مشوار عاشه الشخص.. وباحت سطوره باعترافات…ومفارقات.. قصص نجاح واخفاقات.. الأمر الذى يبرر استعادة التوصيف.. لما جاء فى خاطرنا حتى مرحلة الشيخوخة.. وذلك السجن الذى لا يمنع أبداً من تعريفها.. مسك الختام.. ومع الفارق نخاطب شريحة تفوق بكثير… أهل القمة من المبدعين.. لأنها ترتبط بمرحلة من العمر.. يحياها بإذن الله.. شرائح متعددة:
الغنى والفقير..الأمى والمتعلم ..المشهور والمجهول..المبدع والمتلقي..المدير والغفير إلخ.. الرابط هنا.. ما قدر له من عمر وبقاء على قيد الحياة.. بعد سن الحصاد.. والتقاعد أو الانسحاب التدريجى من سلم الوظائف والترقيات..
**إنهم شركاء المحطة الأخيرة.. قبل الهبوط من القطار.. يطلقون عليهم الكبار.. أو العواجيز أو المسنين.. وعلمياً أبناء العمر الثالث.. رجل أو سيدة.. أصبح غالبا أبأ لرجال وسيدات وجدا لأحفاد.. يظل وحيداً بعد رحيل رفيق الحياة.. لا يدرى عن الاستثمار الأمثل لوقت الفراغ الذى فاض وزاد.. تلتقى عاطفته ومشاعره فى لهفة متراكمة كالجبال.. وقلق على أحوال الأبناء والأحفاد.. متعطش دوماً للقائهم والاقتراب منهم.. ولفت أنظارهم بالهدايا والحكايات.. يسترجع قوى الشباب الضائعة عند دعوته لزيارتهم وتمضية الوقت معهم.. سعادته تتضاعف بأنباء نجاحهم وتتحول الراحة إلى حمل ثقيل… إذا ما أصاب أحدأ منهم مكروه.
**ومهما كان المنزل قديماً أو حديثاً. يفتقد داخل جدرانه الصيف والحرارة.. ونسمات الربيع الفراغ من حوله.. يصبح مصنعاً للجليد.. والدموع تكفى بديلاً عن المياه.. وبعد شهور على الأكثر من التقاعد والخروج للمعاش.. تتراجع قدراته.. على نزول السلالم والمشي والحوار.. حتى ذكرياته وأيام سعادته تتآكل بفضل الزهايمر والنسيان.. يشعر بالشيخوخة سجنا بدون قضبان.. خاصة إذا ما فشل فى استرجاع عادات الشباب والصبا ولقاءات الأصدقاء.. والهوايات والمغامرات.. وهو أمر محتمل الحدوث للغاية خاصة أنه إذا كان المرسل مجددأ الشوق لأصدقاء ومعارف زمان «خارج الأسرة» يكتشف بسهولة عدم استجابتهم.. وتصرخ فى أذنه عبارة «اتصل فى وقت لاحق» أوتأكد من الرقم الصحيح.
**وتتحدد مساحة سجن الشيخوخة مع سجن الوحدة.. وتباعد الجيران.. وانعدام جرس الباب. لتتضاعف سحب الانعزال… ويفقد المرء كل قابلية للقراءة أو مشاهدة التليفزيون أو حتى النوم العميق.. وقد حاول البعض من الذين فقدوا شريك الحياة.. ورفضت أنفسهم دار المسنين.. اعتماد زواج «الأنسة»تأجيلا للانعزال الكامل والخافق للمشاعر والرغبات .. لكنهم فى الخارج لديهم طرق متعددة للحفاظ على التوازن ورحيق الحياة فقد شاهدت فى النمسا.. رجال ونساء فوق السبعين..يصعدون جبالها بهمة ونشاط او يخططون لرحلات سياحية لأماكن سمعوا عنها وأحبوها خلال مشوار تحقيق الأحلام.
وإن كنت شخصياً اعتقد أن مفتاح سجن الشيخوخة مع فلذات الأكباد الصغار.. نغرس فى قلويهم حب الاجداد.. ونرعى جلسات التواصل بين الأجيال.
صالح إبراهيم