قالَ لي : في فترة الحصار الاقتصادي في القرن المنصرم ، زُرتَ ابن عَمِّي المليونير في بيته ؛ لأستدين منه مبلغًا أكمل منهُ بناء بيتي ، فاعتَذر منِّي وقال _ باستعلاء _ :
_ كانَ عليك أن تعملَ مثلي ، وتتركَ التَّدريس ، مهنة الفقراء _ ، وتكسب مالًا فلا تَستَدين !
فقلت له_ وأنا أبلعُ غُصَّتي _ :
_ كلُّ إنسان ينال الرِّزقَ الذي كَتبََهُ اللهُ سبحانه وتعالى _ عليه !
فَقهقَهَ ، وقال- بِسُخرية- :
__ رزق ؟! أما زِلتَ تُؤمِنُ بهذهِ الفكرة القديمة المُتَخَلِّفَة عن الاقتصاد ؟!
فَقُلتُ _ بِصَوتٍ مُتَهَدِّجٍ _ :
__ قال الله – عَزَّ مِن قَائِلٍ – ، في كتابه المجيد، : بسم الله الرحمن الرحيم : ((وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ )) !
فانتابَتْهُ نوبة ضحك هستيرية ، كأنَّني ألقيتُ عليه نكتة ! ، ثم أخذ يسعل ، فشرب العَصيرَ ، ثم سَكَتَ ثم أنشَدَ _ بِلَهجَة الواثِقِ من نَفسِهِ_ :
أَقُولُ قَولًا لِصَادِقْ
يَعنِيهُ قَولُ الحَقَائِقْ
فَمَا أَنَا بِالمُرَائِي
وَ لَا أَنَا بِالمُنَافِقْ !
الرِّزقُ مِن عِندِ نَفسِي
وَ لَيسَ مِن عِندِ خَالِقْ !
لِكَسبِ مالٍ وَفِيرٍ
أَسعَى بِكُلِّ الطَّرَائِقْ
بَنَيتُ صَرحِيْ بِنَفسِي
بِطَابقٍ بَعدَ طابِقٔ
فَقُمتُ أَعلُو وَ أَعلُو
فَوقَ الجِبَالِ الشَّوَاهِقْ
كَأَنَّنِي صِرتُ نَسرًا
أَو أَنَّنِي صِرتّ بَاشِقْ !
بِفَضلِ عَقلِي وَ جُهدِي
بَنَيتُ أَغلَى الفَنَادِقْ !
رَزَقتُ نَفسِيْ بِنَفسِي
ما جاءَنِي رِزقُ رَازِقْ !
أَقُولُ هذَا وَ إِنِّي
مِنٔ كُلِّ مَا قُلتُ وَاثِقْ !
………
قالَ لي : فَخَرَجتُ من عنده دامِعَ العَين ، مَجرُوحَ القلب ، مَكسُورَ النَّفس ! ، وتركتُ بَيتِيَ على قَيدِ البناء ، وسافَرتُ إلى إحدى الدُّوَل العَرَبيَّة مُدَرِّسًا ، وَ بقيت هِنالكَ خَمسَ سَنَوات أكمَلتُ فيها بناء بيتي الذي تكفَّلَ لمتابعة بنائهِ وَلَدي البِكر ، وحين عدتُ سَمعتُ بِخَسارَة ابن عَمِّي لكل ثَروَتِهِ ! ، وفي إحدى اللَّيالي رَأيتُهُ بملابس رَثَّةٍ قذرة ، بلحية بيضاء طويلة ، أمام أحد فنادقه الفخمة يَشحَذُ ! وحين سلَّمتُ عليه باكِيًا ، قُلتُ _ وأنا أنتحِبُ بِحُرقة _ :
_ ما الَّذي فَعَلَ بك هذا يا بن عمي وصديق طفولتي ؟! فَنَظَرَ إلى السَّماء ، بِعَينَينِ غارِقَتَينِ بِالدُّمُوع ، وَ قالَ بِصَوتٍ خاشِعٍ _ :
_(( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ))
ثُمَّ تَرَكَنٌي وهو يُرَدٌّدُ هذِهِ الآية الكريمة !!!