في رواية “أنا وعمي والأيموبليا”، يتناول الكاتب المصري ناصر عراق، حقبة الأريعينيات المهمة في تاريخ مصر، والتي شهدت زخماً سياسياً، وثقافياً وفنياً، وتحولات اجتماعية خطيرة. هذه الحقبة اختارها الكاتب فضاء زمنياً للأحداث الداخلية والخارجية المتمثلة في الحرب العالمية الثانية ].
إرث من التباين تحمله العلاقة المركبة بين الأنا والآخر في كل حقب التاريخ، فمثلما يختلف موقف الشعوب الغربية عن حكوماتها في التعاطي مع حرب غزة الآن، الأمر الذي بدا جلياً في تظاهرات الجامعات الأميركية على سبيل المثال؛
كان الحال كذلك في الحقب الاستعمارية المنصرمة، وإن أسهمت ثورة الاتصال الحديثة في تعظيم أوإبراز حدة التباين والانقسام الحالي. أما الماضي فدائماً ما يستعيده الأدب،
فيبرز تلك المسافة الشاسعة التي تفصل بين صورتين للآخر؛ تجسد إحداها ملامح المستعمر الوحشي، في حين تجسد الأخرى ملامح الإنسان الخيّر، المحب والداعم لحقوق الشعوب في العيش بكرامة، وتقرير مصيرها.
هذه الثنائية تبرز في رواية “أنا وعمي والأيموبليا”، الصادرة حديثاً عن دار الشروق – القاهرة، للكاتب المصري ناصر عراق، والتي يتناول من خلالها حقبة مهمة في تاريخ مصر، شهدت زخماً سياسياً، وثقافياً، وفنياً، وتحولات اجتماعية خطيرة.
يمهد عنوان النص وعتبته الأولى إلى سرد ذاتي، يقوده “فكري” الشاب الذي تخرج لتوه في الجامعة، بفضل عناية الديكورست الألماني “روبرت شارفنبرغ” به، وفاءً لأبيه الذي ربطته به صداقة وثيقة، ولقي مصرعه في حادث سير.
وعبر هذه العلاقة بين الشاب المصري والمهندس الألماني؛ نقل الكاتب صورة للوجود الأجنبي الكثيف في مصر، في النصف الأول من القرن العشرين، والذي تنوع بين وجود عسكري للمحتل البريطاني، وبين أجانب آخرين، تداخلوا وامتزجوا بالنسيج المصري، وعملوا في أكثر المجالات تأثيراً في المجتمع، لا سيما مجال السينما.
وكما مهد عراق في مستهل رحلته؛ امتزجت -عبر النص- الحقيقة بالتخييل، لاسيما وأن “شارفنبرغ” شخصية حقيقية، فرّ من جنون هتلر والنازيين إلى مصر، واستعان به طلعت حرب لتجهيز ستوديو مصر، وقام بإنشاء مناظر وديكورات لحوالى 73 فيلماً مصرياً أهمها “سي عمر”، “سر طاقية الإخفا”، “نادية”، و”الناصر صلاح الدين”.
كذلك برز حضور كثيف لنجوم الفن والأدب في ذلك الوقت، وحاول الكاتب تجسيد روحهم وسماتهم الحقيقية، فنقل خفة ظل أم كلثوم، وحماسة صلاح أبو سيف، وذكاء توغو مزراحي، وكاريزما نجيب الريحاني.
وأتاح حضوراً لنجوم آخرين مثل، نجيب محفوظ، بيرم التونسي، استيفان روستي، أنور وجدي، محمد عبد الوهاب وغيرهم، وقد منحهم أدواراً ثانوية؛ أسهمت في تطور وتحريك الأحداث.
كما اختار عمارة الإيموبليا في منتصف القاهرة، لتكون إحدى الفضاءات المكانية للسرد، على نحو يتسق مع اختيار أشهر الرموز الفنية -في ذلك الوقت- السكن بها.
حدة الصراع
برز الصراع داخل النص، على نحو اتسق مع حالة الزخم السياسي، التي اتسمت بها حقبة الأربعينيات في القرن الماضي، والتي اختارها الكاتب فضاء زمنياً للأحداث؛ فبدا على المستوى الخارجي بين قوات الحلفاء وقوات المحور، في أوروبا، وفي مستعمراتها.
وبدا كذلك بين الاشتراكيين والنازيين، وبين المصريين والمحتل الإنجليزي، وبين حزب الوفد والملك فاروق، وحزب الوفد والإنجليز.
ومرر الكاتب عبر شخوصه رؤى ضمنية تفند ذلك الصراع، سواء على المستوى الدولي أو المحلي “لا تندفع وراء العامة دون تفكر، فليست الجموع على صواب دوماً، وقد شاهدتُ الملايين في ألمانيا تسبح باسم هتلر، وها هو قائدهم المجنون يبطش بجميع معارضيه، ويهدد ويتوعد، بل ويؤجج الكراهية في أفئدة أتباعه، بعد أن أشعل النار في ثياب أوروبا كلها” (ص 24).
غير أن نغمة الصراع السياسي والإيدولوجي كانت أكثر نعومة، إذ بدت كظل في خلفية السرد، في حين احتدم الصراع بين الشخوص المحورية، لا سيما بين زوزو المهدي وروبرت شارفنبرغ، وبينها وبين فكري،
وكذا بين “إلزا” وزوجها الألماني “غونتر”. وقد أسهمت كل تلك الصراعات في زيادة جرعة التشويق في النص، وفي الدفع بعجلة الأحداث، وكذلك في إضاءة تناقضات العالم، الذي يحوي في طياته؛ الإيمان والإلحاد، الثراء والفقر، القساة الذين صنعتهم السوق، والحالمون الذين صنعتهم الفنون.
أما على المستوى الداخلي فاشتعلت صراعات أكثر حدة، احتدمت في العوالم الداخلية للبطل “فكري”، لا سيما وقد توزعت مشاعره بين ثلاث نساء، حمل كل فصل من الرواية اسم واحدة منهن.
وعبر هذا الصراع مرر الكاتب لمحة حول سيكولوجية بعض الرجال الشرقيين، الذين يمنحون مشاعر الحب نفسها لأكثر من امرأة في الوقت عينه.
ميراث من الذكورية
مثلت الحقبة التي اختارها الكاتب فضاء زمنياً للسرد، بداية الثورة على ميراث اجتماعي من القهر؛ حصلت المرأة على النصيب الأكبر منه، وحرمت بمقتضاه من حقوقها في التعليم، والميراث، وفي احترام إنسانيتها.
وقد حاول الكاتب نقل ملامح تلك الحقبة بقدر كبير من الصدقية، فمرر عبر شخوصه موروثاً ذكورياً يمتهن المرأة، ويسمها بالأكاذيب، وينتقص من إنسانيتها، فيعتبر من سبق لها الزواج “مستعملة”، ولا ينبغي للرجل الاقتران بها.
وفي الوقت نفسه يطالب النساء بالتغافل عن كل خطايا الرجل، ونزقه، وأنانيته. وأبرز دور النساء أنفسهن في ترسيخ هذه الذكورية عبر شخصية “سنابل”، التي رغم ما تكبدته من هجر زوجها، وذل الحاجة التي دفعتها إلى بيوت البغاء لتطعم أبناءها؛ لم تحمل حقداً على هذا الزوج غير المسؤول، بل بررت دناءته وتقبلتها