من عادتي أن أشتري كتب أصدقائي الكتاب فهذا أقل مانقدمه من (امتنان)لجهدهم الإبداعي.
وهكذا اشتريت كتاب الصديقة ذكرى لعيبي من معرض العراق للكتاب قبل سنتين مع مجموعة كتب أخرى ثم رقد كتاب ذكرى بسلام ليستريح مع أخوته في صفوف عمودية على منضدة خشبية قرب سريري وستصل تلك الأعمدة إلى السقف بإذنه تعالى إذا كان لي في العمر بقية بفضل عشقي للكتب و ضيق وقتي الموزع بين العمل ومسؤوليات البيت والأولاد.
في ذلك النهار كنت ممسكة بكتاب انطون تشيخوف أقرأ في مجموعته القصصية بعد أن أكملت كتبه من المسرحيات والروايات القصيرة فسمعت صوت ينبعث من وسط صف الكتب العمودي الأول
(هيه ياكسولة متى ستشرعين بقراءتي . منذ عامين وأنا انتظر )
صعقت وصعق معي الطبيب المسكين تشيخوف ،ماذا يحدث ؟ هل تكلم معي كتاب أم أنا اهلوس !!
نظرت فإذا بكتاب ذكرى قد حرك نفسه وانزلق جانب من جسده خارج الصف مهددا أياي بالسقوط إن لم تتلقفه يداي.
سحبته ونظرت إليه فإذا به ينظر إلي بعيني ذكرى السوداوين الساحرتين نظرة عتاب .
عندها قلت لصديقي تشيخوف انتظر قليلا فأنت رجل صبور قد اعتدت الإنتظار فحتى حين اصبت بالسل الرئوي كنت تنتظر الموت بصبر الأبطال ، ثم وضعت فاصلا ورقيا في كتاب ألان دونو نظام التفاهة الذي كنت اقرأه بالتناوب مع تشيخوف وهذه احدى عادات قراءاتي أشرك كتابين أو ثلاث في وقت واحد .
أبعدت الكتابين واحتضنت كتاب ذكرى .
نظرت فإذا به (الأعمال القصصية الكاملة)
قلت ياإلهي ماهذه الورطة التي ورطت نفسي فيها ،فانا لم اقتن مجموعة قصصية واحدة بل الأعمال الكاملة ،خمسة مجاميع قصصية في كتاب واحد !!
لكن ماالعمل ياصديقتي ذكرى؟فأنا لم أقرأ لك كتابا من قبل والآن علي أن أنهي خمسة مجاميع قصصية !
فكرت للحظات ثم همست لنفسي حسنا فاليوم يوم استراحة من العمل وفي الثلاجة طعام يكفي ليوم كامل . ممتاز
هيا ذكرى العزيزة تعالي . لنرى مالديك . وشرعت في القراءة.
المجموعة الأولى كتبت ذكرى الإهداء إلى(أسامة ،أحمد ولدي)
قرأتها ،انتقلت إلى المجموعة الثانية ،الإهداء (إلى آية ابنتي)،ثم الثالثة (إلى أمي)
أتعلمون مامعنى أن يهدي كاتبا نزيف قلمه إلى أحدهم؟
نعم فنحن لانكتب بل ننزف.
قال يوما أحد الروائيون الكبار أنا أضع أصبعي على جبهتي حتى تنفجر الفكرة وتتفجر من جبهتي فانزف.
وهكذا عندما تهدي نزيف روحك وحرائقك إلى أحدهم فأنت تقول له ببساطة (أنت غال عندي جدا،لقد اخترتك من بين الجميع لأخلد اسمك في كتاب ،لقد ذكرتك فاذكرني حين تنساني الفصول،اذكرني كما خلدتك في ذاكرة الكتب وفي حضارة وتأريخ وطن)
كتاب يفتحه الناس لعشرات عشرات السنوات يقرأون ويتساءلون من هذا الذي خط باسمه اهداء كتاب؟أين هو الآن ومن يكون؟!
أكملت المجاميع القصصية الخمسة في يوم واحد ،فشممت رائحة خبز التنور الجنوبي وعطر شط العرب ودخان القنابل والصواريخ المنبعث من حرائق البصرة في حرب الثمان سنوات.
ذكرى مسكونة ببصرتها التي ترعرعت فيها وعجنها طين الجنوب ،كل الأشجار في نصوص ذكرى(نخلات برحي)، كل الأنهار والبحار (دجلة وفرات)،الآباء بعقال وعباءة الجنوب والأمهات بطيبة وحلاوة البصرة.
حتى أسماء شخصياتها جنوبية حد النخاع (جميلة،صبرية،نجلة،عهود).
تكتب ذكرى نصوصها بلغة شعرية وبسوريالية أحيانا وبرمزية غالبا وقد مسكتها عدة مرات متلبسة بالبوح بسيرتها الذاتية من خلف رداء شخصياتها الذي اختبأت تحته لكن رائحة ألم الغربة التي تفوح من مهاجر ترك(نخلته البرحية)وبصرته المبتلاة بويلات الحروب وشت بذكرى وكشفت لي نشيج بوحها.
فالتجربة الحياتية هي مصل كتاباتها وكينونتها.
تقول ذكرى في أحد نصوصها:
(الآباء لماذا يورثوننا الصمود ثم ينهارون ؟!!)
ثم تقول في موضع آخر واصفة قسوة اللجام العرفي على لسان بطل قصتها:
تعلمت منذ الصغر (الرجل يجب ألا يبكي) تسرق لعبته،تكسر دراجته،يرسب في سنته الدراسية الأخيرة،يعذب،يقصون ضفائر حبيبته أمام عينيه،ينزعون ذاكرته،يقتنصون ذكرياته ويجب ألا يبكي!!.
أعتقد أننا حين نكتب عن الحزن نعلم جيدا أن الحزن لالون ولا شكل له ،فهو يتخذ لون وجوه الحزانى وشكل خيباتهم ،له نفس بشري ورائحة بخور محترق على أطلال الذكريات .
ولأن ذكرى جنوبية شربت قصصها حزن الجنوب وويلات الحروب وعذابات المفجوعين والأيتام والمغتربين.
ففي قصتها (ملجأ)اختصرت أوجاع حرب ثمان سنوات وهي تتنقل بين عدة مشاهد في صفحة ونصف لتصف لنا حيوات أناس وأحلام يتم أغتيالها في ملجأ.
مثل هذا المشهد الذي يقشعر له البدن:
(في الزاوية المقابلة خطيبان يتبادلان نظرات حب مغموسة بالخوف ،يتهامسان بآمال صغيرة مؤجلة بحجم هذا الملجأ الفاصل بين الفناء والفناء).
ثم في قصتها (جميلة) تلك القصة التي توقفت عندها طويلا ثم تنهدت بآاااه طويلة وقلت:
نعم أحسنت ذكرى تجوع الحرة ولاتأكل من ثدييها.
(جميلة نهضت من كبوة الزمن ليجثو الفقر راكعا أمام عفتها).
ثم قصص قصيرة جدا .
وقد اخترت منها ماأعتبرها قصيرة جدا وعميقة بعمق المحيطات.
(الحارس،قوقعة،ارذل العمر،الصديقة،أحمر شفاه ،زواج مؤقت،رسوب)هذه القصص القصيرة جدا أثرت في بعمق وأحببتها بصدق .
الغدر والخذلان في (قوقعة)
العقوق في (أرذل العمر)
الخيانة والخيبة في (الصديقة)
سوء الظن والقسوة في (أحمر شفاه)
الكبرياء في (زواج مؤقت)
وسأختم مقالي بقصة ذكرى القصيرة العميقة هذه :
(كهرمانة تطلب اللجوء الإنساني)
لملمت ثوبها ،عبأت فيه النخل والنرجس والمآذن والكنائس،حملت معها شارع المتنبي،ملأت عينيها بالنهرين ،تركت جرار الأربعين حرامي لأشباههم ،دقت باب السماء طالبة لجوءا إنسانيا.