قتال .. من تحت الأرض ..!!
أربكت الاحتلال ..حملته تكاليف باهظة.. ودفعته لارتكاب مجازر بشرية غير مسبوقة
حماس تغلبت على عقبات الاتصالات والملاحة وانخفاض الأكسجين ورُهاب الأماكن المغلقة
الأنفاق شملت أماكن للنوم وقاعات ومباني مزودة بالتهوية والكهرباء ومراحيض وحمامات
“الشبكة الجوفية” بها مطابخ وغرف قيادة ومراكز بيانات وأماكن احتجاز
القنابل الخارقة للتحصينات.. لا تكفي لتدمير هذه الهياكل الأعمق والأكثر قوة
تقرير يكتبه
عبدالمنعم السلموني
عندما هاجمت المقاومة الفلسطينية إسرائيل في السابع من أكتوبر، جرَّت إسرائيل إلى واحدة من أسوأ حروب الأنفاق في التاريخ. والآن، أصبح من الواضح أن حجم شبكة أنفاق حماس تحت الأرض لم يسبق له مثيل، وأن استخدام الأنفاق ساهم في سقوط ضحايا بين المدنيين والجنود. والأكثر أهمية هو أن استمرار عمليات حرب الأنفاق على مدى أشهر، تسبب في عرقلة الجيش الإسرائيلي وإرباكه، الأمر الذي أدى إلى تحمل الاحتلال تكاليف دبلوماسية وسياسية باهظة، لا يمكن تصورها، وارتكاب جرائم ومجازر بشرية ضد الفلسطينيين غير مسبوقة في تاريخ الحروب.
وترى دافني ريتشموند باراك، الأستاذة بجامعة ريشمان الإسرائيلية ومؤلفة كتاب “الحرب تحت الأرض”، أنه، فيما يتعلق بحرب الأنفاق، “فهي الوحيدة التي يمكن مقارنتها بالحرب العالمية الأولى، التي مات فيها عدد لا يحصى من الجنود البريطانيين والألمان أثناء محاولتهم كشف الأنفاق وتلغيمها وحفرها. لا يوجد استخدام آخر للأنفاق في الحرب يشبه أنفاق حماس -لا تَمَتْرُس أسامة بن لادن في جبال أفغانستان؛ ولا تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في مالي، حيث استُخدمت الأنفاق لشن هجمات من مخابئ شبه منيعة تحت الأرض؛ ولا تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، الذي استخدم الأنفاق لمهاجمة القوات متعددة الجنسيات بقيادة الولايات المتحدة في العراق وسوريا. كان استخدام حماس للأنفاق متقدمًا للغاية لدرجة أنه يمكن مقارنته بالطريقة التي تستخدم بها الدول الهياكل تحت الأرض لحماية مراكز القيادة والسيطرة.
أدى تعزيز حماس لقدراتها تحت الأرض إلى زعزعة تقييم الاحتلال “للتهديدات الجوفية”. ولم تتخيل إسرائيل قط أن تتورط في حرب أنفاق بهذا الحجم. وإذا كان هناك أي شيء، فهو أن الاحتلال كان يركز على إزالة أنفاق حماس التي تعبر إلى داخل الأراضي الإسرائيلية. المرجح أن تحفز الحرب في قطاع غزة تطوير عقيدة جديدة وأساليب مستحدثة للتعامل مع هذا النوع الفريد من الحرب. لا شك أن نظام أنفاق المقاومة الفلسطينية لفت انتباه الجيوش الأخرى والجهات غير الحكومية، وجميعها تشير إلى مدى فعاليتها في بقاء الحركة بغزة.
وتذكر باراك، في مقالة لها على موقع فورين أفيرز، أن المقاومة تغلبت على العقبات المتأصلة في الحرب تحت الأرض ــالاتصالات، والملاحة، وانخفاض مستويات الأكسجين، ورهاب الأماكن المغلقة، وغيرها، وبالتالي فإن هذا التكتيك سيستمر في الانتشار. أدى استخدام حماس المبتكر لشبكات الأنفاق إلى إعادة تعريف القيمة الاستراتيجية للسطح، وغيَّر المواجهات العسكرية، كما غير استخدام الدروع البشرية.
والبقاء تحت الأرض لفترات طويلة ليس سهلا، كما أفاد المقاتلون الأوكرانيين الذين عاشوا في الأنفاق أسفل مصنع آزوفستال للصلب خلال الهجوم الروسي على ماريوبول عام 2022. سرعان ما نفد الطعام ومياه الشرب لدى تلك القوات. وكانوا يفتقرون إلى أبسط الترتيبات الصحية والطبية، ناهيك عن الاتصال بالإنترنت والحفاظ على التواصل مع العالم الخارجي. أما في غزة، فلم يشكل أي من هذا مشكلة. ولم يتمكن الذين قاتلوا في أنفاق أزوفستال من البقاء على قيد الحياة لأكثر من شهرين تحت الأرض، لكن المقاومة الفلسطينية حافظت على وجود عسكري تحت الأرض لأكثر من ثمانية أشهر حتى الآن. هذا الأداء، الذي حطم الأرقام القياسية، مرجعه وجود متاهة طويلة من الأنفاق، تمتد عبر غزة وتشمل مطابخ مجهزة بالكامل، وغرف قيادة مفروشة، ومراكز بيانات متطورة، وحمامات مبلطة، وزنزانات احتجاز مسيجة، ومناطق عمل متخصصة.
وحتى أفضل مهارات الحفر لا تهيئ للمقاتلين البقاء لفترات طويلة تحت الأرض. الظروف قاسية والأكسجين نادر والتواصل مع العالم الخارجي محدود. أظهرت حماس أن سنوات من التدريب والتخطيط الدقيق قد تساعد في التغلب على هذه العقبات. وتشمل أنفاق المقاومة أماكن للنوم، وقاعات اجتماعات، ومباني أخرى تحت الأرض، مجهزة بالتهوية والكهرباء والمراحيض والحمامات والسباكة وشبكات اتصالات بدائية لكنها فعالة. ومع تحسن البنية التحتية، تضاءلت سلبيات العيش والعمل تحت الأرض. أتاحت المخزونات الهائلة من الوقود والغذاء والمياه داخل الأنفاق العيش والقيام بعمليات عسكرية. ضمنت مرافق إنتاج الأسلحة الواسعة تحت الأرض استمرار إمدادات الأسلحة وتوزيعها دون انقطاع.
والمعروف أن مستخدمي الأنفاق يخرجون منها للتزود بالمؤن، واستنشاق الهواء النقي، والتواصل مع العالم الخارجي، ولكن قيادة حماس بالكاد تُرى فوق الأرض. وفي أبريل، أفادت تقارير بأن يحيى السنوار، زار قواته فوق الأرض. والمؤكد أن حماس تمكنت من توجيه العمليات العسكرية دون انقطاع. ورغم تعرضها للضربات -خاصة عندما تعطل الضربات الإسرائيلية أنظمة اتصالاتها -تمكنت الحركة من ضمان استمرار التسلسل القيادي من قواعدها العسكرية تحت الأرض.
استخدمت قوات المقاومة الأنفاق لحماية نفسها من تكنولوجيا المراقبة وللتمكن من العمل دون اكتشافها. والعديد من الأنفاق التي كشفها جيش الاحتلال تشبه الهياكل الموجودة تحت الأرض في إيران وكوريا الشمالية من حيث حجمها وعمقها وطريقة بنائها. كما يمثل سقفها الأسمنتي المقوس سمة مميزة، حيث تم استخدام الأسمنت لبناء ممرات أنفاق أكبر. ومقارنة بأنفاق حماس السابقة، فقد تحسنت الهندسة بشكل كبير. أصبحت الأنفاق أقل عرضة للانهيار، ومضاءة جيدًا، وأكثر ملاءمة للعيش.
اعتمدت المقاومة على الأنفاق كجزء من استراتيجيتها. فهي ترى أن حرب الأنفاق هي استثمار استراتيجي طويل الأجل، وليست مجرد تكتيك لمواجهة قدرات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع الإسرائيلية. فالقنابل الخارقة للتحصينات، لا تكفي لتدمير هذه الهياكل الأعمق والأكثر قوة. ويعكس الاستخدام الاستراتيجي للأنفاق مدى التركيز على التمكن من البقاء أطول وقت ممكن تحت الأرض.
شكلت الأنفاق العمليات العسكرية في غزة، مما أدى لتقويض احتمالات تحقيق نصر إسرائيلي سريع، وإبطاء وتيرة العمليات، وجعل إنقاذ الرهائن أكثر صعوبة، وتعقيد البيئات العسكرية والسياسية لإسرائيل. ولكن هناك جانب واحد يتم التغاضي عنه، وله عواقب وخيمة على حروب المستقبل، فاستراتيجية حماس العمل تحت الأرض أدت إلى تقليص أهمية السطح.
الصحفي الإسرائيلي رون بن يشاي وصف هذا النوع الجديد من القتال بأنه “حرب على مستويين مختلفين”. في المراحل الأولى للحرب، سعى جيش الاحتلال للسيطرة على السطح لكشف الأنفاق ثم دخولها. ولكن مع تقدم عمله، تحول الاهتمام إلى الممرات من وإلى تحت السطح. لم يعد السطح محور القتال بل أصبح مجرد قناة للوصول إلى الأنفاق والهياكل تحت الأرض.
وحرب الأنفاق جعلت المقاومة غير مرئية وبعيدة المنال. في غزة، اختفت المقاومة بشكل شبه كامل تحت الأرض. وبما أن الانتظار لم يسفر عن أي نتائج، فقد اضطر الجيش الإسرائيلي لاستخدام كل أنواع الأسلحة لإخراج مقاتلي حماس من مكامنهم.
رغم ذلك، خرج رجال المقاومة وأطلقوا الصواريخ على الدبابات الإسرائيلية ونفذوا الكمائن. لكن تكتيكات حماس في استخدام الأنفاق أعاد تعريف البيئة الجوفية، كما أعاد تعريف قيمة وطبيعة القتال البري. تشير الأفخاخ المتفجرة القريبة من ممرات الأنفاق إلى وجود المقاومة، ولكن لا توجد مقاومة في الأفق، وعندما يتم اختراق الأنفاق، تكون قوات المقاومة قد انتقلت إلى جزء مختلف من شبكة الأنفاق.
إذا كانت الحرب الجوفية قد حلت محل الحرب البرية في غزة، فمن الممكن أن تحدث في مكان آخر. هذه التطورات تفرض تأطير الحرب الجوفية كمجال مستقل للحرب وليست مجرد جزء فرعي من الحرب البرية.
أظهر القتال في غزة أن التقدم في تكنولوجيا مكافحة الأنفاق فشل في منع المقاومة من اللجوء للحرب تحت الأرض. ويمكن القول إن قوات الاحتلال تمتلك التكنولوجيا الأكثر تقدما في العالم لمكافحة الأنفاق. وتم نشر تقنيات الكشف والتحييد المتقدمة لمواجهة تهديد أنفاق حزب الله المتجهة إلى إسرائيل عام 2018. ولدى إسرائيل وحدات خاصة مدربة على حرب الأنفاق، وطورت أجهزة استشعار تحت الأرض لحماية حدودها، وأتقنت رسم خرائط الأنفاق باستخدام طائرات بدون طيار، على حد تعبير باراك.
وتدرك المقاومة تمامًا أن التفوق العسكري والتكنولوجيا الأكثر تطوراً لا يكفيان لمواجهة مثل هذه القدرات السرية. وكانت حماس تعلم أن شبكة الأنفاق الواسعة من شأنها أن تبطئ الرد الإسرائيلي، وتقلل من الميزة التنافسية التي تتمتع بها إسرائيل، وتحمي كبار قادة الحركة. لقد أثمرت الحرب منخفضة التكنولوجيا في غزة، وهو نجاح يعزز حرب الأنفاق في كل مكان.
الكر والفر
قال مسؤولون أمريكيون وإسرائيليون لوكالة رويترز، إنه تم القضاء على نحو نصف قوات حماس خلال الحرب المستمرة منذ ثمانية أشهر وإنها تعتمد على أساليب الكر والفر لإحباط محاولات إسرائيل للسيطرة على قطاع غزة.
وأضاف المسؤولون، الذين طلبوا عدم الكشف عن هويتهم، إن مثل هذه التكتيكات يمكن أن تؤدي لاستمرار حماس في القتال لأشهر قادمة، بمساعدة الأسلحة المهربة عبر الأنفاق وغيرها من الأسلحة التي تم إعادة استخدامها من الذخائر غير المنفجرة أو التي تم الاستيلاء عليها من القوات الإسرائيلية.
وقال بيتر ليرنر المتحدث باسم جيش الاحتلال لرويترز إن الجيش ما زال بعيدا عن تدمير حماس التي قال أيضا إنها فقدت نحو نصف قوتها القتالية. واعترف بأن إسرائيل لا تستطيع القضاء على كل مقاتلي حماس أو تدمير كل الأنفاق.
وقال مسؤول في الإدارة الأمريكية إن الحركة الفلسطينية أظهرت قدرتها على الانسحاب بسرعة والاحتماء بعد تنفيذ الهجمات وإعادة تنظيم صفوفها ثم الظهور مرة أخرى في المناطق التي تعتقد إسرائيل أنها خالية من المسلحين.
“شبكة مترو”
وكانت شبكة سي إن إن أشارت، في أكتوبر الماضي، إلى أن الجيش الإسرائيلي يطلق على شبكة الأنفاق بالعامية، “مترو غزة”. إنها متاهة واسعة من الأنفاق، تستخدم لنقل الأشخاص والبضائع؛ وتخزين الصواريخ ومخابئ الذخيرة؛ وتضم مراكز القيادة والسيطرة التابعة لحماس، وكلها بعيدة عن أعين المتطفلين من طائرات الجيش الإسرائيلي وطائرات الاستطلاع بدون طيار.
ويقول الخبراء إن الحفارين يستخدمون الأدوات الأساسية ويمكن أن يحفروا عميقًا تحت الأرض لإقامة شبكة الأنفاق المزودة بالكهرباء والمعززة بالخرسانة. ولطالما اتهمت إسرائيل حماس بتحويل الخرسانة المخصصة للأغراض المدنية لبناء الأنفاق.
إن ما يجعل أنفاق حماس مختلفة عن أنفاق تنظيم القاعدة في جبال أفغانستان أو حركة الفيتكونج في غابات فيتنام هو أنها قامت ببناء شبكة تحت الأرض أسفل واحدة من أكثر المناطق كثافة سكانية على هذا الكوكب. ويعيش ما يقرب من مليوني شخص في مساحة 88 ميلاً مربعاً التي تشكل مدينة غزة.
أنفقت إسرائيل مليارات الدولارات في محاولة لتأمين الحدود بنظام ذكي يتميز بأجهزة استشعار متقدمة وجدران تحت الأرض، ومع ذلك تمكنت حماس من شن هجومها في 7 أكتوبر برًا وجوًا وبحرًا.
وقالت ريتشموند باراك: “لا يوجد حل مضمون للتعامل مع تهديد الأنفاق”. “لا توجد قبة حديدية للأنفاق”.
مدينة تحت غزة
ورغم أن إسرائيل استثمرت بكثافة في اكتشاف الأنفاق -بما في ذلك إقامة حاجز تحت الأرض مجهز بأجهزة استشعار أطلقت عليه اسم “الجدار الحديدي” -فلا يزال من المعتقد أن حماس لديها أنفاق يمكن من خلالها الوصول للعالم الخارجي.
بعد مواجهات “سيف القدس” عام 2021، قال زعيم حماس في غزة، يحيى السنوار: “يقولون إنهم دمروا 100 كيلومتر من أنفاق حماس. وأقول لكم، الأنفاق لدينا في غزة تتجاوز 500 كيلومتر. حتى لوكانت روايتهم صحيحة، فقد دمروا 20% فقط من الأنفاق”.
ولم يتم التأكد من تصريحات السنوار، لكن تقدير مئات الكيلومترات مقبول على نطاق واسع من قبل المحللين الأمنيين، رغم أن طول الشريط الساحلي المحاصر لا يتجاوز 40 كيلومترا.
ويشير تقرير لوكالة رويترز إلى أنه رغم سيطرة إسرائيل على المداخل الجوية والبرية لغزة وعلى 59 كيلومتراً من حدودها البرية التي يبلغ طولها 72 كيلومتراً، وفرت الأنفاق وسيلة تستطيع حماس من خلالها جلب الأسلحة والمعدات والأشخاص.
وتعتقد حماس أنه في ظل التفوق العسكري الجوي والمدرع للاحتلال، فإن الأنفاق تقلص بعض هذه المزايا بإجبار جنود الاحتلال على التحرك تحت الأرض في مساحات ضيقة يعرفها مقاتلو حماس جيداً.
وقال أمير أفيفي، وهو عميد سابق في الجيش الإسرائيلي وشغل منصب نائب قائد فرقة غزة المكلفة بمعالجة الأنفاق: “هناك مدينة بأكملها تحت جميع أنحاء غزة بعمق يتراوح بين 40 و50 مترًا. وهناك مخابئ ومقرات ومخازن، وهي متصلة بأكثر من ألف موقع لإطلاق الصواريخ”.
وشبكة الأنفاق هي السبب الرئيسي الذي يجعل حماس أقوى في غزة منها في الضفة الغربية التي تحتلها إسرائيل، حيث إن القواعد العسكرية وأجهزة المراقبة الإسرائيلية تجعل من الصعب إدخال أي شيء من الأردن.